اليوم : ماتت ويتني ، لن تعود أبدا إلى أرض أجدادها ، لن تسير حافية القدمين على الرمال الساخنة ، لن تركض يوما كالمهرة ، لتختبيء من حبيبها خلف جذع شجرة في سفح جبل كليمانجارو ، لقد انطفأت عيناها إلى الأبد ، وتوقفت الدقائق والثواني ، وأهيل على جثمانها التراب ، لكن صوتها العميق مازال يصدح : و...دائما سأظل أحبك ...
هل كان الوقت صيفا أم شتاءا ؟ لا أذكر بالضبط لكنني أتذكر صوتها يفاجؤني ، يحملني عاليا ، يعرج بي في فضاءات ساحرة الإبهاج والإدهاش والبعث على البكاء ، كنت غارقة تماما في روتين أيامي المتناسخة ، عندما طرقت سمعي أمواج من البوح المنتحب ، ذلك البوح الذي لا تقوله إلا حنجرة أمريكية من أصول أفريقية :
( إذا كان ...ينبغي أن أبقى ..
فسأكون فقط ...في طريقك ...
إذن : عليَّ أن أرحل ...
سأفكر بك في كل خطوة أخطوها...
ودائما : سأظل أحبك ...
دائما ...سأحبك أنت...
حبيبي أنت.. أفضل الذكريات التي وحدها ...
سآخذها معي ...لذا : وداعا ....
لا تبكي أرجوك ...
فكلانا قد علم أنني ...
لستُ ما أنت بحاجة إليه ...
و...سأظل أحبك دائما... ) (1)
كانت آلة الساكسفون حادة كمُدية ، وهي تحفر في أعماقي وتبهرني ككل مرة بعمق الإحساس لدى أحفاد كونتا كينتي (2) ، كونتا كينتي الذي قضى طفولته في حضن الطبيعة البكر ، حيث يمكن للإنسان أن يجري بسرعة فهد ويثب بدقة نمر ، هناك حيث كان الإنسان حرا كأفراس البراري ، كطيور الجزر النائية ، وكأشجار الأدغال ، لكن المحيط صب عليه يوما جحيما مبهما ، حوله إلى عبد ، انتزعه من أرضه وزرعه في بلادٍ بعيدة ، انتزع منه حريته وأنزله إلى مرتبة العبد ، هناك حيث وجد كونتا كينتي ورفاقه ونسلهم من بعدهم ، وجدوا أنفسهم مجبرون على تجرع المرار يوميا وفي كل لحظة ، عندما تشرق الشمس أو تغيب ، تمطر السماء أو تصفو ، في الحقول حيث يعملون وفي الأكواخ حيث تتحول نساؤهم وبناتهم إلى سبايا وجواريي ، لم يكن من الصبر بد ، ولا إلى الصمت سبيل ، لذلك ابتكر أولئك المسحوقون طريقتهم الجميلة في التأوه ولفظ أنينهم المستمر ، بدءا بتلك الهمهمة والمناجاة التي أنتجت للعالم فن البلوز والجاز ، وصولا إلى تلك الروائع التي تحملك عند سماعها إلى تخيل أن صداها قد وصل إلى الشواطيء الأفريقية ، وعانق غاباتها والتصق بسقوف أكواخها ، وتردد عاليا في سمائها ، كأنه يحمل إليها سلام وحنين الذين رحلوا ولم يعودوا ..ولن يعودوا ...
هكذا تردد في أعماقي وأنا أستمع إلى تغريدتها الموشحة بالأمل والألم معا :
( أتمنى أن تعاملك الحياة بلطف ...
أن تنال كل ما كنت تحلم به ...
أتمنى لك السعادة والفرح ...
وفوق كل هذا أتمنى أن تُحظى بالحب ..
و.....سأظل دائما أحبك...)
انتهت الأغنية ، وظلت آلة الترومبيت تعوي وتلفظ مع أنفاسها آهات الحزانى والموجوعين ، أولئك الذين عندما كان الألم يعض قلوبهم ، يقضمها قضمة قضمة ، وهم هناك في الحقول النائية ، يستحضرون ذكريات الركض تحت شمس أفريقيا ، بمحاذاة الشاطيء الغافي ، الركض في أدغال أفريقيا ومسابقة النمور والفهود ، ثم الارتماء على الأرض الساخنة التي تمنحهم الدفء بسخاء الأمهات ، تلك البراري البعيدة التي لن يعودوا إليها ، هل ستعرفهم إن عادوا ؟ والأنهار التي تطوق الخضرة الكثيفة وتخترقها بقوة العناق الأبدي هل سيرتمون يوما في مياهها الهادرة ليقبضوا بأصابع عارية على صيدهم الثمين من الأسماك المكتنزة اللامعة ؟ أولئك ، وهم يعملون في حقول القطن ويسفحون دموع الحنين ، هل تخيلوا يوما أن أول مغنٍّ أمريكي يبيع خارج الولايات المتحده الأمريكيه أكثر من 100 مليون البوم ، سيكون من أصول أفريقية ؟ وأنه سيكون أسطورة فنية برقصته المميزة ( مشية القمر) وبحركاته الإيحائية التي تبدو كرسائل مشفرة ، أو كرقصة طائر نصف مذبوح ؟ هل تخيل المكبلون في أقبية سفن القراصنة أن أحد أحفادهم سيُصنف في موسوعة غينيس للأرقام القياسية أنه ( أنجح مغني على الإطلاق ) ؟ وأنه سيتبرع كثيرا بعائدات حفلاته لجياع الصومال ، ويفتح في مزرعته بنيفرلاند حديقة حيوانات ومدينة ملاهي ليمكن الأطفال مرضى السرطان من التسلية والترفيه ، وأنه حتى بعد موته يظل الأسطورة الأكثر إدهاشا ؟ وأن أجيالا من أحفاده سيظلون يرددون صراخه وأنينه وهمهماته المتألمة ، مقدمين بذلك للعالم طعما جديدا من الفن الإنساني النبيل ؟ هل تخيل كونتا كينتي أن أحد رؤساء أمريكا سيكون من أصول أفريقية ؟
انتهت أغنية ( سأظل دائما أحبك ) لويتني هيوستن ، كنت قد غبت عما حولي ورحلت مع صوتها إلى أعالي جبل كليمانجارو ، وتخيلتُني أبصرت من هناك أشرعة السفن الغاصبة ، التي اصطادت كونتا كينتي كما تُصطاد الحيوانات ثم غيبته خلف الزرقة الشاسعة ، وهي لا تدرك أن التاريخ سينصفه وسيجعل من أحفاده سادة وسيدات ، ومشاهير تلتف حولهم قلوب الملايين ، وأن من بينهم مغنية وممثلة بهية السُّمرة إسمها : ويتني هيوستن .
واليوم : ماتت ويتني ، لن تعود أبدا إلى أرض أجدادها ، لن تسير حافية القدمين على الرمال الساخنة ، لن تركض يوما كالمهرة ، لتختبيء من حبيبها خلف جذع شجرة في سفح جبل كليمانجارو ، لقد انطفأت عيناها إلى الأبد ، وتوقفت الدقائق والثواني ، وأهيل على جثمانها التراب ، لكن صوتها العميق مازال يصدح : و...دائما سأظل أحبك ...
هوامش :
( 1 ) من فيلمها الشهير ( الحارس الشخصي )
( 2 ) إسم بطل المسلسل الشهير ( جذور ) الذي يروي قصة الجذور الأفريقية لسود أمريكا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق