هكذا تعلمت من عمار بلحسن .
بقلم : رتيبة بودلال
ثم إن رحيله جاء مع بداية رحلتي الموجعة مع الإنجاب : أتذكر أنني كنت أنتظر ولادة طفلي الأول ، كان الصيف فاحش الحرارة والرطوبة ، وكنت منتفخة مثل دمية بولغ في حشوها عندما قرأت في إحدى الجرائد أن الأديب عمار بلحسن يكتب وهو على فراش الموت ( يوميات الوجع ) ، وأن رقدته بالمستشفى لم تمنعه من الكتابة بل إنه يكتب بإصرار ويسابق الموت ...
كنت أتساءل : بأي عين يرى المقبل على الموت هذا العالم ؟ وكم تختلف نظرة المبدع للموت عن نظرة الشخص العادي ؟ ماذا يكتب عمار بلحسن ؟ لمن يكتب وهل... هل سأقرأ يوما ماكتبه ؟
لكن ذلك الصيف لم يمهلن ِ حتى أعرف أجوبة أسئلتي ، فقد اختطفني تسونامي ، وجرفني إلى حدود البرزخ عندما دخلت المستشفى أواخر شهر أوت 1993 ، ثم أصبحت أما لأول طفل ، أول طفل ميت ، خرجت من المستشفى مهزومة الأمومة ، منكسرة ، راضية بقضاء الله ، لكن برعب يصرصر في أعماقي كالعاصفة ، تذكرت الرجل الذي يسابق الموت بالكتابة ، اسمه عمار بلحسن ويكتب وهو على فراش الموت؟ ماذا لومت وأنا أضع مولودي ؟ حسنا أنا حية ، سأكتب عن أمومتي المؤجلة ، وهكذا كتبت ( عندما أصبحت أما ) (1)
كان التسونامي عنيفا ومتوحشا ، فمن جهة : مزيدا من الأطفال الذين أضعهم فلا أسمع لهم صرخة واحدة ، ومن جهة أخرى : أخبار الذبح والتقتيل ، والمجازر الجماعية ، نشرات الأخبار بلون الدم ، رائحة اللحم المحترق ، دخان أسود ، النفق يضيق ، يضيق وأنا أختنق .
ونسيت عمار بلحسن !! نسيت حتى أن أتابع أخباره لأعرف إن كان الفارس لايزال ممشوق السيف أم أنه قد ترجَّل ، كان التسونامي لا يرحم فهل أنا معذورة ؟ مرت السنوات ، عوضني الله بأولادي الأربعة ، كبروا ، خرجت أخيرا من النفق الطويل البارد الموحش ، نفضت رمادي ثم وقفت ، وجاءت صرختي الأولى بعد سنوات من الردم ، جاءت على صفحات أصوات الشمال ، الحمد لله كبر أطفالي : قصائدي الأروع التي اعتزلت العالم لأنسج حروفها ، الحمد لله خرجت من النفق ، وتراجع شلال الدم ، وأنعم الله علينا بالشبكة العنكبوتية ، أستطيع أن أنشر كتاباتي بضغطة زر ، أتواصل مع رفقاء الحرف وأنا أجلس إلى حاسوبي وأرتشف قهوتي بُعيد الفجر أو قبيل منصف الليل ، كتبت ..شرعت في نشر أرشيفي الضخم إلى الذاكرة الإلكترونية : أخيرا الأوكسجين النقي يدخل رئتيَّ ، صار لي أصدقاء ، قراء ومبدعين ، ومنابر للإبداع أبوح من فوقها بحرائقي وألحاني ، ونسيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت عمار بلحسن !! حتى جاء ذلك اليوم ، كنت أتجول عبر الشبكة العنكبوتية ، عندما تعثرت في تلك العبارة ( عمار بلحسن الذي غيَّبه الموت في 29أوت 1993 ) هل رحل في تلك الليلة بالذات ؟ الليلة التي أصبحت فيها أما لأول طفل ، أول طفل ميت؟ هل طلعت روحه ليلا أم نهارا ؟ هل طافت روحه في السماء وعرَّجت على مستشفى مدينة الطاهير بولاية جيجل ، وزارتني في رقدتي لتهمس في أذني : أكتبي ...؟ أم أن روحي حلَّقت في تلك الليلة أثناء نومي لتصافح روحه الراحلة وتأخذ من عندها مفتاح السر : الكتابة ، ثم تعود لأفتح عينيَّ صباحا وأنا أبحث بإصرار عن ورقة وقلم ؟ ولماذا إذن نسيته كل هذه السنوات ؟ أم أنني اعتقدت أنه كان من هلوسات امرأة على وشك الوضع ؟ أليس من حقي أن أعتقد ذلك وقد غاب ذكره وذكراه عن الساحة الأدبية بعدها طويلا ؟ أم أنه تسونامي يغير الجغرافيا ويطمس التاريخ ، ويجعل هامة الأنقاض أعلى من الصروح ؟
لماذا نسيت عمار بلحسن ؟ ولماذا أكاد أعتبرني غير معنية بالكتابة عنه ضمن ملف أصوات الشمال ؟ ألم يعلمن ِ الدرس الذي أفادني في أحلك الظروف : مسابقة الموت بالكتابة ؟ بفضله كتبت وأنا على فراش الموت عدة مرات ، وبفضله أصريتُ على نشر قصتي ( نقطة ..أول السطر) (2) ليلة دخولي المستشفى لإجراء عملية جراحية دقيقة وحساسه تدوم خمس ساعات (3) ، وبفضله كنت أحمل في حقيبتي كلما ذهبت إلى المستشفى ( ثمان مرات ) كتبا وقلما ودفترا ، حتى أسابق الموت بالقراءة والكتابة ، فهل يُعقل بعد هذا ألا أكون معنية بالكتابة عنه ؟ أعتقد أنني معنية بل ومطالبة بالكتابة عنه ، وبذكر فضله هذا عليَّ ، بل ومعنية بالتنقيب عن كنوزه وإزالة الغبار عنها ، أتمنى أن تُتاح لي فرصة ذلك ، رحمه الله ، وطيَّب مثواه ، وبارك في زوجته وأولاده ، ليكونوا عطره في هذه الدنيا.
كنت أتساءل : بأي عين يرى المقبل على الموت هذا العالم ؟ وكم تختلف نظرة المبدع للموت عن نظرة الشخص العادي ؟ ماذا يكتب عمار بلحسن ؟ لمن يكتب وهل... هل سأقرأ يوما ماكتبه ؟
عندما أعلنت أصوات الشمال عن ملف الراحل عمار بلحسن خجلت من نفسي ، وتساءلت : أليس من الجحود أن أعود إلى النشر منذ أزيد من سنة دون أن أكتب عنه كلمة واحدة وهو الذي علمني أحد أعظم الدروس ؟ خجلت من نسياني لفضله ، وانغماسي في حياة لم تتسع لأقول له كلمة شكر واحدة ، فكرت في كتابة مقال وإرساله إلى أصوات الشمال لكنني تراجعت : ماذا يمكن أن أكتب عنه أنا التي لم تتقاطع حياتي مع حياته إلا بقدر ما يتقاطع شهاب مجنون السرعة مع غيمة عابرة للسماء ؟ سيكتب عنه أصدقاؤه ، ورفاق درب الإبداع ، والصحافيون الذين حاوروه يوما ، والأدباء الذين جمعتهم به الملتقيات والأمسيات الأدبية ، أما أنا فقد رحل عن هذا العالم قبل أن أقرأ له كلمة واحدة ، رحل ذات صيف وتركنا على فوهة بركان الدم ، نلج بأقدام جريحة عشرية الموت بالجملة ، لنعبر على امتداد عقد من الزمن نفق الرعب الأسود .ثم إن رحيله جاء مع بداية رحلتي الموجعة مع الإنجاب : أتذكر أنني كنت أنتظر ولادة طفلي الأول ، كان الصيف فاحش الحرارة والرطوبة ، وكنت منتفخة مثل دمية بولغ في حشوها عندما قرأت في إحدى الجرائد أن الأديب عمار بلحسن يكتب وهو على فراش الموت ( يوميات الوجع ) ، وأن رقدته بالمستشفى لم تمنعه من الكتابة بل إنه يكتب بإصرار ويسابق الموت ...
كنت أتساءل : بأي عين يرى المقبل على الموت هذا العالم ؟ وكم تختلف نظرة المبدع للموت عن نظرة الشخص العادي ؟ ماذا يكتب عمار بلحسن ؟ لمن يكتب وهل... هل سأقرأ يوما ماكتبه ؟
لكن ذلك الصيف لم يمهلن ِ حتى أعرف أجوبة أسئلتي ، فقد اختطفني تسونامي ، وجرفني إلى حدود البرزخ عندما دخلت المستشفى أواخر شهر أوت 1993 ، ثم أصبحت أما لأول طفل ، أول طفل ميت ، خرجت من المستشفى مهزومة الأمومة ، منكسرة ، راضية بقضاء الله ، لكن برعب يصرصر في أعماقي كالعاصفة ، تذكرت الرجل الذي يسابق الموت بالكتابة ، اسمه عمار بلحسن ويكتب وهو على فراش الموت؟ ماذا لومت وأنا أضع مولودي ؟ حسنا أنا حية ، سأكتب عن أمومتي المؤجلة ، وهكذا كتبت ( عندما أصبحت أما ) (1)
كان التسونامي عنيفا ومتوحشا ، فمن جهة : مزيدا من الأطفال الذين أضعهم فلا أسمع لهم صرخة واحدة ، ومن جهة أخرى : أخبار الذبح والتقتيل ، والمجازر الجماعية ، نشرات الأخبار بلون الدم ، رائحة اللحم المحترق ، دخان أسود ، النفق يضيق ، يضيق وأنا أختنق .
ونسيت عمار بلحسن !! نسيت حتى أن أتابع أخباره لأعرف إن كان الفارس لايزال ممشوق السيف أم أنه قد ترجَّل ، كان التسونامي لا يرحم فهل أنا معذورة ؟ مرت السنوات ، عوضني الله بأولادي الأربعة ، كبروا ، خرجت أخيرا من النفق الطويل البارد الموحش ، نفضت رمادي ثم وقفت ، وجاءت صرختي الأولى بعد سنوات من الردم ، جاءت على صفحات أصوات الشمال ، الحمد لله كبر أطفالي : قصائدي الأروع التي اعتزلت العالم لأنسج حروفها ، الحمد لله خرجت من النفق ، وتراجع شلال الدم ، وأنعم الله علينا بالشبكة العنكبوتية ، أستطيع أن أنشر كتاباتي بضغطة زر ، أتواصل مع رفقاء الحرف وأنا أجلس إلى حاسوبي وأرتشف قهوتي بُعيد الفجر أو قبيل منصف الليل ، كتبت ..شرعت في نشر أرشيفي الضخم إلى الذاكرة الإلكترونية : أخيرا الأوكسجين النقي يدخل رئتيَّ ، صار لي أصدقاء ، قراء ومبدعين ، ومنابر للإبداع أبوح من فوقها بحرائقي وألحاني ، ونسيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت عمار بلحسن !! حتى جاء ذلك اليوم ، كنت أتجول عبر الشبكة العنكبوتية ، عندما تعثرت في تلك العبارة ( عمار بلحسن الذي غيَّبه الموت في 29أوت 1993 ) هل رحل في تلك الليلة بالذات ؟ الليلة التي أصبحت فيها أما لأول طفل ، أول طفل ميت؟ هل طلعت روحه ليلا أم نهارا ؟ هل طافت روحه في السماء وعرَّجت على مستشفى مدينة الطاهير بولاية جيجل ، وزارتني في رقدتي لتهمس في أذني : أكتبي ...؟ أم أن روحي حلَّقت في تلك الليلة أثناء نومي لتصافح روحه الراحلة وتأخذ من عندها مفتاح السر : الكتابة ، ثم تعود لأفتح عينيَّ صباحا وأنا أبحث بإصرار عن ورقة وقلم ؟ ولماذا إذن نسيته كل هذه السنوات ؟ أم أنني اعتقدت أنه كان من هلوسات امرأة على وشك الوضع ؟ أليس من حقي أن أعتقد ذلك وقد غاب ذكره وذكراه عن الساحة الأدبية بعدها طويلا ؟ أم أنه تسونامي يغير الجغرافيا ويطمس التاريخ ، ويجعل هامة الأنقاض أعلى من الصروح ؟
لماذا نسيت عمار بلحسن ؟ ولماذا أكاد أعتبرني غير معنية بالكتابة عنه ضمن ملف أصوات الشمال ؟ ألم يعلمن ِ الدرس الذي أفادني في أحلك الظروف : مسابقة الموت بالكتابة ؟ بفضله كتبت وأنا على فراش الموت عدة مرات ، وبفضله أصريتُ على نشر قصتي ( نقطة ..أول السطر) (2) ليلة دخولي المستشفى لإجراء عملية جراحية دقيقة وحساسه تدوم خمس ساعات (3) ، وبفضله كنت أحمل في حقيبتي كلما ذهبت إلى المستشفى ( ثمان مرات ) كتبا وقلما ودفترا ، حتى أسابق الموت بالقراءة والكتابة ، فهل يُعقل بعد هذا ألا أكون معنية بالكتابة عنه ؟ أعتقد أنني معنية بل ومطالبة بالكتابة عنه ، وبذكر فضله هذا عليَّ ، بل ومعنية بالتنقيب عن كنوزه وإزالة الغبار عنها ، أتمنى أن تُتاح لي فرصة ذلك ، رحمه الله ، وطيَّب مثواه ، وبارك في زوجته وأولاده ، ليكونوا عطره في هذه الدنيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق