الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

بطاقة معايدة
إلى كل عربي أو مسلم استطاع أن يحتفل بالعام الجديد بعدما شاهد أشلاء أطفال غزة تتطاير وسط حقول الفوسفور الأبيض ، إلى كل عربي أو مسلم استطاع أن يحتفل برأس السنة الميلادية رغم أنف نشرات الأخبار التي تنقل على المباشر صور شلال الدم في العراق الحبيب ... إلى عرب السيجار، والدولار والفياغرا وإعادة الإعمار ( بعد تعمد التخريب)..
نخب الخيبة...وما تبقى من فتات الوقت.
في كل منعطفٍ على درب القصيدْ..
تتخطَّف الكلمات آهي..
تزدريني عبرة ٌ باتت على كفي تراقب صبوتي..
تتحول الكلمات... بارودا رخاميّ البرودْ..
وأنا المعلَّقة على التابوت ...تنقرني الخفافيش ..
يقدِّدني اصطخاب النزف ..تردمني السدودْ..
وحدي ومن خلفي ومن فوقي ومن تحتي الحدودْ..
لكأنما لا بدرَ ، لا حطين ، لا يرموك ضجَّت بالصهيلْ..
لكأنما لا قادسية ُ أشرعت بالنور باب المستحيلْ ..
لهفي على الزهراء في بغداد تولم للنحيب و للعويلْ...
لهفي على نهر الفرات ، على انطفاء الطلع في ذاك النخيلْ...
لهفي على الزيتون في يافا ، على كرم الجليلْ ...
لهفي على ضحكات أطفال أصاخ لشجوها الليل الطويل ْ..
لهفي على الجولان أمسى في خَبَرْ...
لهفي على النيلين قـُدَّا من دُبُرْ..
لهفيي...على الصخر العتيق ِ، على العقيق ِ، على السنابلْ ..
لهفي على غزه.... تفرق نزفها بين القبائلْ..
لكأنني ..لا أهلَ لا إخوانَ... لا من أستجير بنخوته.ْ.
نهش الكلاب يقدني.. وصلاح يرشف في المنافي قهوتهْ...
لحمي يئزّ ُ بقيظهم ... وصلاح في شرم ٍ.. يداعبُ... قطتهْ...
شرفي يُهانُ وها صلاح الدين ِ..في روما.. يزور عشيقته.ْ...
وقوافل الغلمان ِ و الخُصيان ِ.. تبكيني وتبكي ردتهْ...
وأنا المشرّحة على التابوت... أرقب من بعيدٍ صحوته.ْ.
وأنا التي .... من أين تبدأ ُ جذبتي ؟
نافورة الوقت التي زينتـُها شاختْ...
وماعادت تدق بشرفتي..
من أين جاءت هاته الريح وعرت عورتي....
وأنا التي ..من أين تبدأ قصتي ؟
من بيعة الحجاج ؟أم من رجفة الحلاج ؟
أم من مصرع الخلفاء في غرناطةِ ؟
وحدي على التابوت يرقبني الحيارى .. والعذارى
والأيامى الحور ِ ...والغُرِّ...وبعض الصفوة ِ..
و قوافل العُربان ِ ترقب في اشتهاءٍ : كيف تبدأ ميتتي...
وأنا التي ... وحدي على التابوت أبلع غصتي ..
وأنا التي ....
أنا فتنة ُوبلاءُ هذي الأمة ِ.. ياويح معظم أمتي..
جفة الحلاج ؟
أم من مصرع الخلفاء في غرناطةِ ؟
وحدي على التابوت يرقبني الحيارى .. والعذارى
والأيامى الحور ِ ...والغُرِّ...وبعض الصفوة ِ..
و قوافل العُربان ِ ترقب في اشتهاءٍ : كيف تبدأ ميتتي...
وأنا التي ... وحدي على التابوت أبلع غصتي ..
وأنا التي ....
أنا فتنة ُوبلاءُ هذي الأمة ِ.. ياويح معظم أمتي..


بين المتنبي...والدكتور
بقلم : رتيبة بودلال
إطلع على مواضيعي الأخرى
[ شوهد : 564 مرة ]
ويحي أهكذا ستجلدنا الأجيال القادمة نحن الذين عشنا في زمن الثورة التكنولوجية فلم نتقن سوى حرفة المتنبي : إنتاج الكلام ؟
عندما قرأت ( لهذا أنا لا أحب المتنبي ) اعتقدت أن الدكتور الزاوي يقصد متنبيا آخر غير الذي أعرف ، لولا ذلك البيت اليتيم لأبي الطيب الذي أورده الدكتور ليبرهن عدم حبه للرجل المتملق ، شاعرالبلاط ، المتذلل للحاكم .....الخ غير أن معلوماتي تقول أن المتنبي قد استعمل أنجع وسيلة في عصره وهي الشعر لتذكير كافور الإخشيدي بوعده الذي طال انتظاره ، فلم يتملقه و إنما عاتبه بذكاء وعبقرية حين سماه ( أبا المسك ) وترك له خيار اعتبار ذلك مدحا ( ببسبب طيب رائحة المسك ) أو هجاءا بسبب لونه الأسود ، أقول هذا رغم مقتي الشديد للعنصرية .
ما أوقعني في الحيرة هو عدم تقييم سيرة المتنبي في سياق عصره وضمن الإطار الزماني الذي عاش فيه : لقد عاش المتنبي في زمن كان فيه قول الشعر والبراعة فيه وفي نحت البليغ منه ، صناعة باهضة الثمن جزلة المكافأة وكان فيه مدح الزعماء والأمراء والملوك شيئا دارجا وعاديا لا يعيب صاحبه ، ومع ذلك لم يكن المتنبي يمدح من هب ودب ، وكان رفضه لمدح أحدهم سبب هلاكه ، فبعد هجائه لكافور وفراره منه ، قصد بغداد ولم يمدح الوزير المهلبي لانه كان يترفع عن مدح الملوك ،غضب عليه عضد الدولة فارسل اليه فاتك بن جهل الاسدي مع جماعته وهو في طرقه للكوفة كان مع المتنبي جماعته ايضا فتقاتل الفريقان فلما راى ابو طيب الدائرة عليه هم بالفرار ، ويقال ان غلامه قال له : يا ابا الطيب ألم تقل : الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم ، فقال له المتنبي : قتلتني قتلك الله فرجع وقاتل هو وابنه مُحسد وغلامه مُفلح ، فقُتل وتناثرت كتبه وأوراقه وبينها ديوان أبي تمام شاعر المتنبي المفضل ، وكان عند مقتله في الحادية والخمسين من عمره رحمه الله ،فلماذا يعتبره الدكتور الزاوي شاعرا متملقا ؟ هل كان المطلوب من المتنبي أن يحشد جيشا جرارا فيُغير على كافور وينتزع منه حقه ؟ أم كان عليه أن ينسى ويحتسب أم لعل الدكتور يعتقد أنه كان عليه التعبير عن موقفه بأسلوب حضاري كالإضراب عن الطعام أو الإعتصام أمام السفارة أو كتابة رسالة إلى كافور ونشرها في الصحافة الورقية والإلكترونية ، ولم لا : الإعلان عن موته الشعري ؟ وهكذا لا يكون المتنبي متملقا أو متذللا ، بل يكون متحضرا وصاحب فلسفة عبقرية في التعبير عن سخطه ضد من بإمكانه قطف رأسه بإيماءة واحدة .
قال أبو الطيب المتنبي :
فإذا أتتك مذمتي من ناقص*** فهي الشهادة لي بأني كامل
وقال أيضا :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه *** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقال :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله*** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
كذلك قال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى *** حتى يراق على جوانبه الدمُ
وهو القائل كذلك :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي *** وأسْـــــمعتْ كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبــيداء تعرفـني *** والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وأيضا :
الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أول وهي المقام الثاني
وقال : إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقال :
ولم أر في عيوب الناس عيبا *** كنقص القادرين على التمام
ولا يتسع المقام لذكر كل تلك الحكم العبقرية التي صاغها المتنبي شعرا متفردا فشغل الدنيا في زمانه ، وفي كل زمان جاء بعده ، فكيف يكرهه أمين الزاوي ؟ ألأنه قال :
أبا المسك هل في الكأس من فضل أناله*** فإني أغني منذ حين وتشرب ؟
هل كان على المتنبي أن يصنع الطائرة بدل قول الشعر حتى يحبه أمين الزاوي ؟
ويحي أمن يقول كلاما كهذا يتهمه الزاوي في آخر الزمان بأنه قضى حياته لاهثا وراء السلطة والمال ؟ إذن بماذا سيتهمني الدكتور الزاوي بعد موتي أنا التي قضيت حياتي لاهثة خلف وظيفتي المتواضعة مستميتة في التمسك بها ؟ أنا التي لا أملك عشر بلاغة المتنبي ولا جزءا من المئة منها ؟ بل ماذا سيقال عن الدكتور نفسه بعد مماته وهو الذي تقلد الدروع والمناصب لدى الدولة ، ويقبض راتبه وعلاواته بالدينار كسائر أبناء بلده ، ولم يكتب بيت شعر واحد في حياته ؟ ولم يصنع طائرة أو حاسوبا أو حقق إنجازا علميا أو سبقا فكريا أو نظرية جديدة في الفلسفة ؟ ولم يحرر فلسطين أو العراق أو يشارك في نزع الألغام أو في فك الحصار عن غزة ؟ ويحي أهكذا ستجلدنا الأجيال القادمة نحن الذين عشنا في زمن الثورة التكنولوجية فلم نتقن سوى حرفة المتنبي : إنتاج الكلام ؟
02 / 07 / 2010

نشر في الموقع بتاريخ : الأربعاء 25 رجب 1431هـ الموافق لـ : 2010-07-07

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

هل نحن مجرد مفعول به؟


هل الصدفة وحدها هي التي جعلت تسريبات ويكيليكس تسبق بقليل طوفان الثورات العربية المتتالية ؟ و هل الصدفة وحدها هي التي جعلت الشعوب العربية تتبنى خيار الخروج على الحاكم المستبد كلها دفعة واحدة وبهذا الإصرار غير المسبوق ؟  ألم يكن لتسريبات ويكيليكس  الدور الأكبر في نسف جبل الصبر الذي ركنت إلى سفحه الشعوب العربية لعقود ، قبل أن تقرر كلها أن للصبر حدودا قد تجاوزوها منذ آماد ؟ وهل يجوز بعد ذلك أن نتمسك بتسمية ( تسريبات ويكيليكس ) بدل تسمية ( خطة ويكيليكس ) ؟  إذ لا يعقل أن يكون ذلك الكم الهائل من الوثائق قد تسرب  في غفلة من ترسانة الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية المدعومة بأحدث الوسائل التكنولوجية ، كما لا يعقل أن يكون ما تسرب من وثائق هو بالضبط  ذلك الذي يدين الحكام العرب ويعري ولاءهم لأمريكا أمام أعين شعوبهم ، فلماذا مثلا لم تتسرب وثائق تدين إسرائيل وتكشف مخططاتها الصهيونية الخبيثة والتي من بينها مخطط تهويد القدس واجتثات  تاريخه الإسلامي ؟ وقبلها المخطط الجهنمي الذي ابتدع أكذوبة المحرقة اليهودية ( الهولوكوست ) وأسس بناءا عليها شرعية  الحق في إقامة دولة صهيونية ؟ لماذا تخصصت الوثائق المسربة في كشف عورات الحكام العرب ؟  
منذ ظهور تسريبات ويكيليكس وأنا على يقين أنها جزء من مخطط طويل المدى يهدف إلى خلق شرق أوسط وشمال إفريقي جديدين ، عبر نسف الأنظمة القائمة واستبدالها بواقع غير مستقر سمته الفوضى ، واقع يشكل الأرضية المثالية لتمرير كل المشاريع الغربية وفرضها على أرض الواقع ، مما سيكون فتحا مبينا للسياسة الأمريكية بالدرجة الأولى ، ودون إراقة دم جندي أمريكي واحد ، ولا إنفاق دولار واحد من ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية ، مشروع في غاية الدهاء ، يصطاد كل العصافير المطلوبة ليس فقط بحجر واحد ولكن : دون حجر حتى ، فقد تزامنت المعطيات بالشكل الذي يسمح بوضع خطة متكاملة يتم تنفيذها عبر خطوات  متراتبة ، تكون كل واحدة منها مؤسِّسة لما يليها :
الهدف : خلق أمر واقع جديد ، مزروع بالآليات المناسبة لخدمة الأهداف الأمريكية ، يكون قابلا للتكيف مع كل الظروف ، ويمتلك أدوات فاعلة للضغط على النظام الحاكم بما يخدم المصالح الأمريكية مهما تغير الزمن .
الوسائل : تغيير الأنظمة الحالية واستبدالها بأنظمة موالية لأمريكا .
آليات التنفيذ : نظرا للهرم المفرط الذي تتميز به الأنظمة العربية  ، وتردي الحالة الاجتماعية  للأغلبية الساحقة من الشعوب العربية ، واستعداد هذه الشعوب لدفع ضريبة الدم من أجل التحرر من الطغاة الذين يحكمونها ، فإنه يكفي أن  يتم تحفيز الأدرينالين الشعبي ، وتغذية روح الثورة والتمرد ، عبر ما يسمى ( تسريبات ويكيليكس )  التي ستكون بمثابة القطرة التي تفيض الكأس ، و لكي تبدو العملية عفوية ومعزولة ينبغي التنديد بالموقع ومقاضاة صاحبه  بأية تهمة ملفَّقة ، يتم تحت غطائها تهريبه أو تغيير هويته نهائيا وتغييبه عن الساحة الاعلامية والترويج لإشاعة أنه  قد انتهى به الأمر واحدا  من نزلاء غوانتانامو مثلا ، حتى صاحب الموقع ينبغي أن يتم استغلاله دون علمه : تُيسَّر أمامه السبل للحصول على ما سيعتقده كنزا إعلاميا ، ثم يُوفَّر له من يساعده ويشجعه ويوهمه أنه سيأتى بخارقة الدهر المتمثلة في فضح وثائق غاية في السرية ، وهكذا تأتي ردود أفعاله وتصرفاته بما يخدم الهدف الأصلي : إظهاره كمهدور دم ومطلوب من العدالة الأمريكية ...أما باقي المهمة  فستضمنه الشعوب العربية المسكينة التي ستتحمس للموضوع بحكم طبيعتها التفاعلية الانفعالية ، واستعدادها الفطري  للانخراط في العمل الجماعي ، وسيساعدها في ذلك تلك الشحنة الهائلة من الغضب والضغط  والتي تراكمت عبر عقود من الكبت الفكري والقمع السياسي ...الخ، وفي غفلة من الشعوب المتحمسة ، المندفعة في تسونامي من الثورات العارمة ، وعبر مسلسل من الفوضى التي ستكون بمثابة الغطاء  تمرر كل الآليات السياسية  والأدوات الديبلوماسية  المطلوبة ، حتى تفوّت على الأنظمة الحاكمة الجديدة فرصة الرفض أو الموافقة ، بحيث يجد النظام الجديد نفسه مكبلا بالأمر الواقع وغارقا في وحل مخلفات النظام الحاكم القديم وإفرازات الفترة الإنتقالية  .
لقد ثارت عدة شعوب عربية ، ونجح بعضها في إسقاط عرش الطاغية المستبد ، ومع ذلك مازلت أتساءل : من القائد الحقيقي لهذه الثورات ؟ هل هو لوسانج صاحب موقع  ويكيليكس ؟ أم هو البوعزيزي صاحب الكرامة الأبية ؟ أم أن هذه الثورات هي صنيع الإدارة الأمريكية المثابرة ، ألم يتنبأ بها أوباما منذ شهر أوت  2010  حتى أنه  أصدر مذكرة بعنوان  "توجيهات دراسة رئاسية رقم 11"، ذكر فيها وجود "أدلة على تنامي استياء المواطنين من انظمتهم" في منطقة الشرق الأوسط وأخطرالوكالات الحكومية أن "المنطقة تدخل مرحلة دقيقة من التغيير"، وان عليهم "إدارة المخاطر الناجمة عن التغيير بالإظهار لشعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا محاسن التغيير التدريجي، ولكن الحقيقي، الناتج عن انفتاح سياسي أكبر والتحسن في شؤون الحكم". ؟ وقد قامت " واشنطن بوست " الامريكية بنشر هذه النبوءة لتكتمل فصول المسرحية ويسدل الستار على وقع تصفيقات أمريكا و  إسرائيل .
هل أنا متشائمة  وممن يؤمنون بخرافة ( نظرية المؤامرة ) ؟ هل أجسد نموذج الفرد العربي مهزوز الثقة بالنفس ، الذي إذا لم يجد النكد أوجده ؟ هل سنستيقظ يوما على تسريبات موقع إلكتروني آخر يفضح فيها كيف سوَّقت أمريكا فكرة الثورة وكيف جمعت أرباح الصفقة أضعافا مضاعفة أم أن هذه الثورات هي فعلا فاتحة عهد جديد في البلدان العربية ؟ قد يكون بدوره عهد جيل جديد من الطغاة ؟ هل أنا متشائمة ؟


نقطة ، أول السطر...

مقدمة : هل نحتاج إلى أن يفوت الأوان أو يكاد ، حتى نفهم؟ وهل علينا أن نشرب من البحر قبل أن نتلذذ زلال هذه الأرض؟
ليل حالك الظلمة يطبق على صدري ، وأنا أندس بين أجساد باردة كل ما أعرفه عن أصحابها أنهم مثلي اختاروا امتطاء صهوة الجامح المغري : البحر الأبيض المتوسط ، ولكن : لماذا هو أبيض و متوسط ؟ السؤال مستفز لكني لا أستطيع التركيز وسط كل هذا الصخب ، صوت البحر يجتاح أذنيّ كالرعد وأنا أمعن في الالتصاق برفقاء الرحلة ، أحاول ألا ّ أرتعد لكن رجفة غامضة بدأت تنبض داخل صدري ، هل ستـنقضي الرحلة بسلام فتشرق شمس الغد وقد بلغنا الشاطئ الآخر ؟ ماذا لو انتهى بنا الأمر وليمة لأسماك البحر ؟ تذكرت كلام حسان الطاليان :( ياكلني الحوت فالبحر وما ياكلنيش الدود فالقبر) ظل يردد هذه العبارة حتى لفظ البحر جثته ذات صباح ، انتشلناها ودفنّـاه في مقبرة القرية وأكله الدود ... ترى كم جثة كان عليّ أن أنتشل حتى أدرك أن ما سيأكلنا في النهاية هو الدود وليس السمك؟
القارب يتهادى ، وصوت البحر يملأ ُ المكان ، الظلام يتكاثف و البرد يتحول إلى مسامير تنغرز في لحمي ، الأجساد الباردة تزداد التصاقا بي وأيدٍ كثيرة تمتد في صمت لتمسك بمناطق من جسمي ، هل يشعرون بمثل خوفي و بردي ؟ لابأس إذن ، لست وحدي ، سيمر بعض الوقت الصعب قبل أن يرسو بنا القارب في الضفة الأخرى ، و عندما نستقر هناك سنتذكر هذه الليلة مثلما يتذكر الواحد منا شقاوة الطفولة ،ترى هل هكذا شعر حسان الطاليان في بداية رحلته تلك؟ وهل قفزت إلى ذاكرته صورة شخص انتشله يوما ودفنه؟ هل سيتكرر معي نفس السيناريو؟ هل كنت أحمقا عندما قررت الرحيل؟ حسان كان معذورا : المسكين يعيش حياته الكادحة بمرارةٍ محبطة ، لا أستطيع أن أنسى منظره في صباحات الربيع ، عندما كان يصل متأخرا إلى المدرسة، منهكا ومبللا وخجولا ، وكيف صارحني ذات مرة أنه يضطر إلى النهوض باكرا ليتمكن من بيع رُزَم الشتائل والأعشاب الطبية المختلفة ، وكيف يتحتم عليه خفض السعر حتى يتخلص من حمولته قبل تمام الثامنة صباحا، ليتمكن في النهاية من الحضور إلى المدرسة في الموعد،ومع ذلك لم يواصل تعليمه واضطر إلى العمل نادلا في مقهى القرية، و ظلت ثيابه: (الشيفون) تؤكد رزوحه تحت نير الفقر، قال لي مرة :
( ليثني كنت ابن أبيك !! يحرم نفسه لأجلكم وليس مثل أبي الذي لا أذكر مرة اشترى لي فيها شيئا... أي شيء !! فمنذ صغري تحتم عليّ العمل والإنفاق على نفسي ، ورغم أن أترابي تزوجوا إلا ّ أني لا أسمح لنفسي بمجرد الحلم بذلك ، لأنني مجبر على إعالة إخوتي وأمي.)
آآآه المسامير تتوغل في لحمي أكثر ، وتصبح أشد إيلاما ، ولكن لابأس ، فلابد من ثمنٍ غالٍ للحصول على حلم غالٍ ، رذاذ البحر يرتطم بوجهي كحفنة من الحصى المسنّن ، وجهي يتحول إلى قطعة من الجليد ، ومع ذلك عليّ ألا ّ أفقد شجاعتي ، سأعوض كل خلية من جسمي عن كل لحظة ألم سببها هذا البرد اللعين : على الرمال الساخنة الممتدة على شاطئ المحيط ، سأتمدد عاري الظهر، ستحف بي حوريات الجزر النائية ، وهناك بعيدا عن العيون الحاسدة سأغرف المتعة حتى أغصّ ، لا أحد سيمنعني من إرواء ظمئي ، سأعربد حتى تنهار قواي العضلية وأتهاوى كالبغل ، آآآه البرد يشنّج أطرافي و الرذاذ يتحول إلى صفعات ٍ جليدية ، كم يمكن للقارب أن يصمد ؟ عددنا أكبر من طاقته لكن المشرف قال أن رحلات مماثلة كثيرة نجحت ، ولكن : لماذا لم تنجح رحلة حسان الطاليان؟ لماذا تخلى عنه حلمه بالوصول إلى شاطئ ليس فيه أب ظالم، وأم مستكينة ذليلة، وإخوة صغار جياع؟ لماذا أكله الدود قبل أن ينتقم من فقره المدقع وماضيه المفزع ؟ حسان...الطاليان : كان يحلم بالهجرة إلى إيطاليا وظل يجاهر بذلك حتى سميَ بهذا الإسم: الطاليان ،لا أستطيع نسيان ذلك المساء ، عندما ارتفع نحيبه وبكاءه وتجمع حوله الأطفال والمراهقون، كانت أمسية حزينة وناذرة ، للمرة الأولى يبكي أحدهم بصوت مرتفع من أجل حبيبته ، ويعلن أنه يتمنى أن تتزوج غيره وتنساه، لم أنجح في إسكاته إلا بعدما أفرغ ما في صدره من صراخ : كان قد شرب الكثير من الخمر، وكان مسربلا بقيئه وحزنه ودموعه ، لا أستطيع نسيان كلماته في تلك الليلة عندما حسبته يهذي ، قال لي :
(سأرحل عن هذه البلاد التي أنكرتني... سأتركها أمانة في رقبتك، لا تسمح لأهلها أن يزوجوها بمن لا يعرف قيمتها، أنت ابن عمها فلا تفرّط فيها)
لماذا أتذكره الآن وأنا محاط بهدير البحر الهائج وبأنفاس الخائفين وبهواجسي المفزعة ، هل سينتشلني أحدهم في الصباح ويأكلني نفس الدود الجائع الذي أكله؟ القارب يتمايل أكثر والموج يحاول ركوبه ، سرعة الموج وحجمه يزدادان والأيدي تتمسك أكثر ، صوت الرعد يصبح أقوى ،أشعر بالصمم ، هل هذه بداية الموت ؟ هل كان عليّ ارتداء المزيد من الملابس حتى لا يتسلل البلل و البرد إلى لحمي بهذه السرعة؟ أبي ؟ هل هذا ذنب أبي ؟ جمع ثروة حلالا من تجارته المتواضعة وبنى منزلا ليزوجني فيه ، على مدى سنوات طويلة ظل يرتدي نفس الملابس حائلة اللون، لكنه لم يفوت عيدا دون شراء كسوة جديدة لي ، لم يعلم أنني أحلم بحياة بعيدة ، وأنني أجمع ثروتي الخاصة من أجل الرحيل إلى حيث لن يراني ثانية، هل هو ذنب أمي؟ آآآه يا أمي ...كم فرحتِ عندما اكتشفتِ أنني قد أصبحت ُأطولَ منكِ ، آآآه يا أمي كم فاخرتِ زوجات أعمامي بي ، وأنتِ تُـقسمين أنكِ ستزوجينني ممن أختارها أنا لأنك لا تحلمين إلا ّ بسعادتي ، آآآه خناجر من جليد تمزق جسدي ، القارب ينتفض ، عليّ أن أربط معصمي بحبل قصير أثبته بلوح من ألواح القارب ، أبي قال لي – عندما اضطررنا إلى عبور النهر ذات مرة – ( عليك أن تختار لوحا وتربط معصمك به ، اللوح سيطفو بك وسيرشد إليك ) ، القارب يترنح مثل سكران ٍ يقاوم السقوط، لقد أترعته مياه البحر الذي ثار فجأة كأنه يريد لفظنا و التخلص منا ، الأمواج تتحول إلى كثل من الغضب الذي يتساقط على رؤوسنا ، وأنا أقاتل شراستها في محاولة مستميتة لأربط الحبل الموصول بمعصمي إلى ذلك اللوح ، لقد اخترت مكان جلوسي بجوار نتوء تعمدت أن أجعله في متناولي عند الحاجة ، وتأكدت أنه بالمتانة الكافية لتحمل عنف الأمواج الرعناء ، حمدا لله أنني ربطته قبل أن تتخذر أصابعي ، آآه القارب ينقلب ، الأيدي تضيع مني ، برد كالأزاميل يحفر في أعماقي ، الموج الغاضب يتخطّفني فيقذفني فيثنيني فيقلبني فيأ... هل سيأكلني الدود في مقبرة قريتي أم في قبر ٍ مجهولٍ بأرض لم تطأها قدماي يوما ؟ هل سيغرس أهلي أغصان الريحان والعطرشة على قبري أم ستدوسه الكلاب المدللة وتقضي حاجتها على العشب النابت فوقه ؟ جسمي يتحول إلى لوح جليد ، الموج يتقاذفني والموت يبدأ من قدميّ ، قدميّ ؟ رائحة الخبز الطازج من موقد أمي ، مطلوع أمي الساخن تناولنيه وهي تقول : ( اقترب ، أدفيء قدميك فمنهما يبدأ البرد ثم ينتشر ومنهما يبدأ الدفء أيضا ) ، مطلوع أمي المغمس بزيت الزيتون البكر ، لاشيء يدفيء أكثر من موقد أمي وخبزها الطازج ، حتى الرمال الساخنة على شواطيء الجزر النائية ، وحتى الأجساد الملفوحة بشمس سواحل المحيط ، آآآه رائحة الخبز،كيف استطعت أن أقرر الرحيل إلى بلاد لاتعرفني ؟ كيف سأحب حياة ليس فيها خبز أمي ولا لمستها الحانية إذ تمسّد شعري و تتحسسه قائلة : ( عليك أن تتذكر دائما أنك رأسمالي وكنزي ، نعم : يكنز الآخرون المال والمعادن الثمينة وأكنز أنا أولادي فليس عندي أغلى منك وإخوتك....) آه كم أحن إلى سماع صوتك يا أمي ، أدرك الآن فظاعة ألا ّ تمسّدي شعري ثانية ، وألا ّ تحلمين بيوم عرسي ، وألا ّ تزغردي لأفراحي ، غصة في الحلق ... كيف استطعت أن اختار هذا الرحيل إلى حيث لن تتدفأ قدماي ثانية قرب موقدك المستعر؟ البرد ...الآن عرفت البرد الحقيقي ، البرد الذي يتحول إلى خناجر تتوغل حتى العظم ، تخترقه ثم تبدأ بالتضخم ، نخاعي يتحول قضبانا من جليد ، شراييني ترتعد وأنا أغوص : وداعا أيتها السماء البعيدة ، لن أرى زرقتك بعد اليوم ولا برقك أو رعدك ، وداعا أيتها التلال فلن أرى حلتك الخضراء الموشاة بألوان قوس قزح بعد اليوم ولا سُفورك الخريفي الكئيب ، وداعا يا ابتسامة أمي وابتهاجها بتضاريس رجولتي التي ترقبها و ترصدها كل يوم بل وكل لحظة ، ويا حلمها البريء بيوم زفافي وبطقوس الفرح المرتقب : آه أمي كيف ذبحتك بهذا البرود؟ كيف كفرت بالحياة التي فيها رائحتك وعطر أمومتك وطمعت في حياة أكثر انفتاحا وحرية بل وتفسخا ، كيف بدالي أن الرحيل هو صفقة عمري وأن حياة ما وراء البحر هي ما ينقصني لأكمل فرحتي ؟ كيف أحرقت بيدي جنتي الزاهرة وأبدلتها بجحيم هذه الرحلة الملعونة؟ ها أنا أغوص ، فوقي مياه صفراء أليس الوقت ليلا؟ وحولي طبقات من المياه الصفراء أوَ ليس الوقت ليلا أم تُراني ميتٌ الآن وهذه دنيا الأموات ؟ هل ستتجمع حولي الآن جثت الذين عرفوني يوما ليسألوني عن أحبتهم الأحياء ؟ هل سيخرج من بينهم حسان الطاليان ويسألني عن حبيبته وكم حزنت عليه وممن تزوجت وإن كانت قد أنجبت ؟ وهل سيكون خبر موتي قد بلغك يا أمي ؟ آه أمي ها أنا أراكِ وأرى استعار موقدك المتوهج ، هاهو خبزك الطازج المستدير كوجه القمر يرتمي في حضن الطاجن الفخاري ليُسفع ويتحمّر، وهاهي رائحته المبهجة تملأ رئتيَّ ، رباه أوَلستُ ميتا؟ أماه ها أنت تقتربين ، ها يدك تحط على جبيني ، الدفء...أشعر بالدفء ، قوة عظيمة تسحبني إلى أعلى ، رجلاي تدفآن ، موقد أمي يقترب ، أسمع صوتا أعرفه يهتف : إنه حي ، إسحبو أكثر... إنه يتنفس ، إسحبوا...