بين المتنبي...والدكتور
بقلم : رتيبة بودلال
إطلع على مواضيعي الأخرى
[ شوهد : 564 مرة ]
ويحي أهكذا ستجلدنا الأجيال القادمة نحن الذين عشنا في زمن الثورة التكنولوجية فلم نتقن سوى حرفة المتنبي : إنتاج الكلام ؟
عندما قرأت ( لهذا أنا لا أحب المتنبي ) اعتقدت أن الدكتور الزاوي يقصد متنبيا آخر غير الذي أعرف ، لولا ذلك البيت اليتيم لأبي الطيب الذي أورده الدكتور ليبرهن عدم حبه للرجل المتملق ، شاعرالبلاط ، المتذلل للحاكم .....الخ غير أن معلوماتي تقول أن المتنبي قد استعمل أنجع وسيلة في عصره وهي الشعر لتذكير كافور الإخشيدي بوعده الذي طال انتظاره ، فلم يتملقه و إنما عاتبه بذكاء وعبقرية حين سماه ( أبا المسك ) وترك له خيار اعتبار ذلك مدحا ( ببسبب طيب رائحة المسك ) أو هجاءا بسبب لونه الأسود ، أقول هذا رغم مقتي الشديد للعنصرية .
ما أوقعني في الحيرة هو عدم تقييم سيرة المتنبي في سياق عصره وضمن الإطار الزماني الذي عاش فيه : لقد عاش المتنبي في زمن كان فيه قول الشعر والبراعة فيه وفي نحت البليغ منه ، صناعة باهضة الثمن جزلة المكافأة وكان فيه مدح الزعماء والأمراء والملوك شيئا دارجا وعاديا لا يعيب صاحبه ، ومع ذلك لم يكن المتنبي يمدح من هب ودب ، وكان رفضه لمدح أحدهم سبب هلاكه ، فبعد هجائه لكافور وفراره منه ، قصد بغداد ولم يمدح الوزير المهلبي لانه كان يترفع عن مدح الملوك ،غضب عليه عضد الدولة فارسل اليه فاتك بن جهل الاسدي مع جماعته وهو في طرقه للكوفة كان مع المتنبي جماعته ايضا فتقاتل الفريقان فلما راى ابو طيب الدائرة عليه هم بالفرار ، ويقال ان غلامه قال له : يا ابا الطيب ألم تقل : الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم ، فقال له المتنبي : قتلتني قتلك الله فرجع وقاتل هو وابنه مُحسد وغلامه مُفلح ، فقُتل وتناثرت كتبه وأوراقه وبينها ديوان أبي تمام شاعر المتنبي المفضل ، وكان عند مقتله في الحادية والخمسين من عمره رحمه الله ،فلماذا يعتبره الدكتور الزاوي شاعرا متملقا ؟ هل كان المطلوب من المتنبي أن يحشد جيشا جرارا فيُغير على كافور وينتزع منه حقه ؟ أم كان عليه أن ينسى ويحتسب أم لعل الدكتور يعتقد أنه كان عليه التعبير عن موقفه بأسلوب حضاري كالإضراب عن الطعام أو الإعتصام أمام السفارة أو كتابة رسالة إلى كافور ونشرها في الصحافة الورقية والإلكترونية ، ولم لا : الإعلان عن موته الشعري ؟ وهكذا لا يكون المتنبي متملقا أو متذللا ، بل يكون متحضرا وصاحب فلسفة عبقرية في التعبير عن سخطه ضد من بإمكانه قطف رأسه بإيماءة واحدة .
قال أبو الطيب المتنبي :
فإذا أتتك مذمتي من ناقص*** فهي الشهادة لي بأني كامل
وقال أيضا :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه *** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقال :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله*** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
كذلك قال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى *** حتى يراق على جوانبه الدمُ
وهو القائل كذلك :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي *** وأسْـــــمعتْ كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبــيداء تعرفـني *** والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وأيضا :
الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أول وهي المقام الثاني
وقال : إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقال :
ولم أر في عيوب الناس عيبا *** كنقص القادرين على التمام
ولا يتسع المقام لذكر كل تلك الحكم العبقرية التي صاغها المتنبي شعرا متفردا فشغل الدنيا في زمانه ، وفي كل زمان جاء بعده ، فكيف يكرهه أمين الزاوي ؟ ألأنه قال :
أبا المسك هل في الكأس من فضل أناله*** فإني أغني منذ حين وتشرب ؟
هل كان على المتنبي أن يصنع الطائرة بدل قول الشعر حتى يحبه أمين الزاوي ؟
ويحي أمن يقول كلاما كهذا يتهمه الزاوي في آخر الزمان بأنه قضى حياته لاهثا وراء السلطة والمال ؟ إذن بماذا سيتهمني الدكتور الزاوي بعد موتي أنا التي قضيت حياتي لاهثة خلف وظيفتي المتواضعة مستميتة في التمسك بها ؟ أنا التي لا أملك عشر بلاغة المتنبي ولا جزءا من المئة منها ؟ بل ماذا سيقال عن الدكتور نفسه بعد مماته وهو الذي تقلد الدروع والمناصب لدى الدولة ، ويقبض راتبه وعلاواته بالدينار كسائر أبناء بلده ، ولم يكتب بيت شعر واحد في حياته ؟ ولم يصنع طائرة أو حاسوبا أو حقق إنجازا علميا أو سبقا فكريا أو نظرية جديدة في الفلسفة ؟ ولم يحرر فلسطين أو العراق أو يشارك في نزع الألغام أو في فك الحصار عن غزة ؟ ويحي أهكذا ستجلدنا الأجيال القادمة نحن الذين عشنا في زمن الثورة التكنولوجية فلم نتقن سوى حرفة المتنبي : إنتاج الكلام ؟
02 / 07 / 2010
نشر في الموقع بتاريخ : الأربعاء 25 رجب 1431هـ الموافق لـ : 2010-07-07
بقلم : رتيبة بودلال
إطلع على مواضيعي الأخرى
[ شوهد : 564 مرة ]
ويحي أهكذا ستجلدنا الأجيال القادمة نحن الذين عشنا في زمن الثورة التكنولوجية فلم نتقن سوى حرفة المتنبي : إنتاج الكلام ؟
عندما قرأت ( لهذا أنا لا أحب المتنبي ) اعتقدت أن الدكتور الزاوي يقصد متنبيا آخر غير الذي أعرف ، لولا ذلك البيت اليتيم لأبي الطيب الذي أورده الدكتور ليبرهن عدم حبه للرجل المتملق ، شاعرالبلاط ، المتذلل للحاكم .....الخ غير أن معلوماتي تقول أن المتنبي قد استعمل أنجع وسيلة في عصره وهي الشعر لتذكير كافور الإخشيدي بوعده الذي طال انتظاره ، فلم يتملقه و إنما عاتبه بذكاء وعبقرية حين سماه ( أبا المسك ) وترك له خيار اعتبار ذلك مدحا ( ببسبب طيب رائحة المسك ) أو هجاءا بسبب لونه الأسود ، أقول هذا رغم مقتي الشديد للعنصرية .
ما أوقعني في الحيرة هو عدم تقييم سيرة المتنبي في سياق عصره وضمن الإطار الزماني الذي عاش فيه : لقد عاش المتنبي في زمن كان فيه قول الشعر والبراعة فيه وفي نحت البليغ منه ، صناعة باهضة الثمن جزلة المكافأة وكان فيه مدح الزعماء والأمراء والملوك شيئا دارجا وعاديا لا يعيب صاحبه ، ومع ذلك لم يكن المتنبي يمدح من هب ودب ، وكان رفضه لمدح أحدهم سبب هلاكه ، فبعد هجائه لكافور وفراره منه ، قصد بغداد ولم يمدح الوزير المهلبي لانه كان يترفع عن مدح الملوك ،غضب عليه عضد الدولة فارسل اليه فاتك بن جهل الاسدي مع جماعته وهو في طرقه للكوفة كان مع المتنبي جماعته ايضا فتقاتل الفريقان فلما راى ابو طيب الدائرة عليه هم بالفرار ، ويقال ان غلامه قال له : يا ابا الطيب ألم تقل : الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم ، فقال له المتنبي : قتلتني قتلك الله فرجع وقاتل هو وابنه مُحسد وغلامه مُفلح ، فقُتل وتناثرت كتبه وأوراقه وبينها ديوان أبي تمام شاعر المتنبي المفضل ، وكان عند مقتله في الحادية والخمسين من عمره رحمه الله ،فلماذا يعتبره الدكتور الزاوي شاعرا متملقا ؟ هل كان المطلوب من المتنبي أن يحشد جيشا جرارا فيُغير على كافور وينتزع منه حقه ؟ أم كان عليه أن ينسى ويحتسب أم لعل الدكتور يعتقد أنه كان عليه التعبير عن موقفه بأسلوب حضاري كالإضراب عن الطعام أو الإعتصام أمام السفارة أو كتابة رسالة إلى كافور ونشرها في الصحافة الورقية والإلكترونية ، ولم لا : الإعلان عن موته الشعري ؟ وهكذا لا يكون المتنبي متملقا أو متذللا ، بل يكون متحضرا وصاحب فلسفة عبقرية في التعبير عن سخطه ضد من بإمكانه قطف رأسه بإيماءة واحدة .
قال أبو الطيب المتنبي :
فإذا أتتك مذمتي من ناقص*** فهي الشهادة لي بأني كامل
وقال أيضا :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه *** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقال :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله*** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
كذلك قال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى *** حتى يراق على جوانبه الدمُ
وهو القائل كذلك :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي *** وأسْـــــمعتْ كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبــيداء تعرفـني *** والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وأيضا :
الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أول وهي المقام الثاني
وقال : إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقال :
ولم أر في عيوب الناس عيبا *** كنقص القادرين على التمام
ولا يتسع المقام لذكر كل تلك الحكم العبقرية التي صاغها المتنبي شعرا متفردا فشغل الدنيا في زمانه ، وفي كل زمان جاء بعده ، فكيف يكرهه أمين الزاوي ؟ ألأنه قال :
أبا المسك هل في الكأس من فضل أناله*** فإني أغني منذ حين وتشرب ؟
هل كان على المتنبي أن يصنع الطائرة بدل قول الشعر حتى يحبه أمين الزاوي ؟
ويحي أمن يقول كلاما كهذا يتهمه الزاوي في آخر الزمان بأنه قضى حياته لاهثا وراء السلطة والمال ؟ إذن بماذا سيتهمني الدكتور الزاوي بعد موتي أنا التي قضيت حياتي لاهثة خلف وظيفتي المتواضعة مستميتة في التمسك بها ؟ أنا التي لا أملك عشر بلاغة المتنبي ولا جزءا من المئة منها ؟ بل ماذا سيقال عن الدكتور نفسه بعد مماته وهو الذي تقلد الدروع والمناصب لدى الدولة ، ويقبض راتبه وعلاواته بالدينار كسائر أبناء بلده ، ولم يكتب بيت شعر واحد في حياته ؟ ولم يصنع طائرة أو حاسوبا أو حقق إنجازا علميا أو سبقا فكريا أو نظرية جديدة في الفلسفة ؟ ولم يحرر فلسطين أو العراق أو يشارك في نزع الألغام أو في فك الحصار عن غزة ؟ ويحي أهكذا ستجلدنا الأجيال القادمة نحن الذين عشنا في زمن الثورة التكنولوجية فلم نتقن سوى حرفة المتنبي : إنتاج الكلام ؟
02 / 07 / 2010
نشر في الموقع بتاريخ : الأربعاء 25 رجب 1431هـ الموافق لـ : 2010-07-07
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق