نقطة ، أول السطر...
مقدمة : هل نحتاج إلى أن يفوت الأوان أو يكاد ، حتى نفهم؟ وهل علينا أن نشرب من البحر قبل أن نتلذذ زلال هذه الأرض؟
ليل حالك الظلمة يطبق على صدري ، وأنا أندس بين أجساد باردة كل ما أعرفه عن أصحابها أنهم مثلي اختاروا امتطاء صهوة الجامح المغري : البحر الأبيض المتوسط ، ولكن : لماذا هو أبيض و متوسط ؟ السؤال مستفز لكني لا أستطيع التركيز وسط كل هذا الصخب ، صوت البحر يجتاح أذنيّ كالرعد وأنا أمعن في الالتصاق برفقاء الرحلة ، أحاول ألا ّ أرتعد لكن رجفة غامضة بدأت تنبض داخل صدري ، هل ستـنقضي الرحلة بسلام فتشرق شمس الغد وقد بلغنا الشاطئ الآخر ؟ ماذا لو انتهى بنا الأمر وليمة لأسماك البحر ؟ تذكرت كلام حسان الطاليان :( ياكلني الحوت فالبحر وما ياكلنيش الدود فالقبر) ظل يردد هذه العبارة حتى لفظ البحر جثته ذات صباح ، انتشلناها ودفنّـاه في مقبرة القرية وأكله الدود ... ترى كم جثة كان عليّ أن أنتشل حتى أدرك أن ما سيأكلنا في النهاية هو الدود وليس السمك؟
القارب يتهادى ، وصوت البحر يملأ ُ المكان ، الظلام يتكاثف و البرد يتحول إلى مسامير تنغرز في لحمي ، الأجساد الباردة تزداد التصاقا بي وأيدٍ كثيرة تمتد في صمت لتمسك بمناطق من جسمي ، هل يشعرون بمثل خوفي و بردي ؟ لابأس إذن ، لست وحدي ، سيمر بعض الوقت الصعب قبل أن يرسو بنا القارب في الضفة الأخرى ، و عندما نستقر هناك سنتذكر هذه الليلة مثلما يتذكر الواحد منا شقاوة الطفولة ،ترى هل هكذا شعر حسان الطاليان في بداية رحلته تلك؟ وهل قفزت إلى ذاكرته صورة شخص انتشله يوما ودفنه؟ هل سيتكرر معي نفس السيناريو؟ هل كنت أحمقا عندما قررت الرحيل؟ حسان كان معذورا : المسكين يعيش حياته الكادحة بمرارةٍ محبطة ، لا أستطيع أن أنسى منظره في صباحات الربيع ، عندما كان يصل متأخرا إلى المدرسة، منهكا ومبللا وخجولا ، وكيف صارحني ذات مرة أنه يضطر إلى النهوض باكرا ليتمكن من بيع رُزَم الشتائل والأعشاب الطبية المختلفة ، وكيف يتحتم عليه خفض السعر حتى يتخلص من حمولته قبل تمام الثامنة صباحا، ليتمكن في النهاية من الحضور إلى المدرسة في الموعد،ومع ذلك لم يواصل تعليمه واضطر إلى العمل نادلا في مقهى القرية، و ظلت ثيابه: (الشيفون) تؤكد رزوحه تحت نير الفقر، قال لي مرة :
( ليثني كنت ابن أبيك !! يحرم نفسه لأجلكم وليس مثل أبي الذي لا أذكر مرة اشترى لي فيها شيئا... أي شيء !! فمنذ صغري تحتم عليّ العمل والإنفاق على نفسي ، ورغم أن أترابي تزوجوا إلا ّ أني لا أسمح لنفسي بمجرد الحلم بذلك ، لأنني مجبر على إعالة إخوتي وأمي.)
آآآه المسامير تتوغل في لحمي أكثر ، وتصبح أشد إيلاما ، ولكن لابأس ، فلابد من ثمنٍ غالٍ للحصول على حلم غالٍ ، رذاذ البحر يرتطم بوجهي كحفنة من الحصى المسنّن ، وجهي يتحول إلى قطعة من الجليد ، ومع ذلك عليّ ألا ّ أفقد شجاعتي ، سأعوض كل خلية من جسمي عن كل لحظة ألم سببها هذا البرد اللعين : على الرمال الساخنة الممتدة على شاطئ المحيط ، سأتمدد عاري الظهر، ستحف بي حوريات الجزر النائية ، وهناك بعيدا عن العيون الحاسدة سأغرف المتعة حتى أغصّ ، لا أحد سيمنعني من إرواء ظمئي ، سأعربد حتى تنهار قواي العضلية وأتهاوى كالبغل ، آآآه البرد يشنّج أطرافي و الرذاذ يتحول إلى صفعات ٍ جليدية ، كم يمكن للقارب أن يصمد ؟ عددنا أكبر من طاقته لكن المشرف قال أن رحلات مماثلة كثيرة نجحت ، ولكن : لماذا لم تنجح رحلة حسان الطاليان؟ لماذا تخلى عنه حلمه بالوصول إلى شاطئ ليس فيه أب ظالم، وأم مستكينة ذليلة، وإخوة صغار جياع؟ لماذا أكله الدود قبل أن ينتقم من فقره المدقع وماضيه المفزع ؟ حسان...الطاليان : كان يحلم بالهجرة إلى إيطاليا وظل يجاهر بذلك حتى سميَ بهذا الإسم: الطاليان ،لا أستطيع نسيان ذلك المساء ، عندما ارتفع نحيبه وبكاءه وتجمع حوله الأطفال والمراهقون، كانت أمسية حزينة وناذرة ، للمرة الأولى يبكي أحدهم بصوت مرتفع من أجل حبيبته ، ويعلن أنه يتمنى أن تتزوج غيره وتنساه، لم أنجح في إسكاته إلا بعدما أفرغ ما في صدره من صراخ : كان قد شرب الكثير من الخمر، وكان مسربلا بقيئه وحزنه ودموعه ، لا أستطيع نسيان كلماته في تلك الليلة عندما حسبته يهذي ، قال لي :
(سأرحل عن هذه البلاد التي أنكرتني... سأتركها أمانة في رقبتك، لا تسمح لأهلها أن يزوجوها بمن لا يعرف قيمتها، أنت ابن عمها فلا تفرّط فيها)
لماذا أتذكره الآن وأنا محاط بهدير البحر الهائج وبأنفاس الخائفين وبهواجسي المفزعة ، هل سينتشلني أحدهم في الصباح ويأكلني نفس الدود الجائع الذي أكله؟ القارب يتمايل أكثر والموج يحاول ركوبه ، سرعة الموج وحجمه يزدادان والأيدي تتمسك أكثر ، صوت الرعد يصبح أقوى ،أشعر بالصمم ، هل هذه بداية الموت ؟ هل كان عليّ ارتداء المزيد من الملابس حتى لا يتسلل البلل و البرد إلى لحمي بهذه السرعة؟ أبي ؟ هل هذا ذنب أبي ؟ جمع ثروة حلالا من تجارته المتواضعة وبنى منزلا ليزوجني فيه ، على مدى سنوات طويلة ظل يرتدي نفس الملابس حائلة اللون، لكنه لم يفوت عيدا دون شراء كسوة جديدة لي ، لم يعلم أنني أحلم بحياة بعيدة ، وأنني أجمع ثروتي الخاصة من أجل الرحيل إلى حيث لن يراني ثانية، هل هو ذنب أمي؟ آآآه يا أمي ...كم فرحتِ عندما اكتشفتِ أنني قد أصبحت ُأطولَ منكِ ، آآآه يا أمي كم فاخرتِ زوجات أعمامي بي ، وأنتِ تُـقسمين أنكِ ستزوجينني ممن أختارها أنا لأنك لا تحلمين إلا ّ بسعادتي ، آآآه خناجر من جليد تمزق جسدي ، القارب ينتفض ، عليّ أن أربط معصمي بحبل قصير أثبته بلوح من ألواح القارب ، أبي قال لي – عندما اضطررنا إلى عبور النهر ذات مرة – ( عليك أن تختار لوحا وتربط معصمك به ، اللوح سيطفو بك وسيرشد إليك ) ، القارب يترنح مثل سكران ٍ يقاوم السقوط، لقد أترعته مياه البحر الذي ثار فجأة كأنه يريد لفظنا و التخلص منا ، الأمواج تتحول إلى كثل من الغضب الذي يتساقط على رؤوسنا ، وأنا أقاتل شراستها في محاولة مستميتة لأربط الحبل الموصول بمعصمي إلى ذلك اللوح ، لقد اخترت مكان جلوسي بجوار نتوء تعمدت أن أجعله في متناولي عند الحاجة ، وتأكدت أنه بالمتانة الكافية لتحمل عنف الأمواج الرعناء ، حمدا لله أنني ربطته قبل أن تتخذر أصابعي ، آآه القارب ينقلب ، الأيدي تضيع مني ، برد كالأزاميل يحفر في أعماقي ، الموج الغاضب يتخطّفني فيقذفني فيثنيني فيقلبني فيأ... هل سيأكلني الدود في مقبرة قريتي أم في قبر ٍ مجهولٍ بأرض لم تطأها قدماي يوما ؟ هل سيغرس أهلي أغصان الريحان والعطرشة على قبري أم ستدوسه الكلاب المدللة وتقضي حاجتها على العشب النابت فوقه ؟ جسمي يتحول إلى لوح جليد ، الموج يتقاذفني والموت يبدأ من قدميّ ، قدميّ ؟ رائحة الخبز الطازج من موقد أمي ، مطلوع أمي الساخن تناولنيه وهي تقول : ( اقترب ، أدفيء قدميك فمنهما يبدأ البرد ثم ينتشر ومنهما يبدأ الدفء أيضا ) ، مطلوع أمي المغمس بزيت الزيتون البكر ، لاشيء يدفيء أكثر من موقد أمي وخبزها الطازج ، حتى الرمال الساخنة على شواطيء الجزر النائية ، وحتى الأجساد الملفوحة بشمس سواحل المحيط ، آآآه رائحة الخبز،كيف استطعت أن أقرر الرحيل إلى بلاد لاتعرفني ؟ كيف سأحب حياة ليس فيها خبز أمي ولا لمستها الحانية إذ تمسّد شعري و تتحسسه قائلة : ( عليك أن تتذكر دائما أنك رأسمالي وكنزي ، نعم : يكنز الآخرون المال والمعادن الثمينة وأكنز أنا أولادي فليس عندي أغلى منك وإخوتك....) آه كم أحن إلى سماع صوتك يا أمي ، أدرك الآن فظاعة ألا ّ تمسّدي شعري ثانية ، وألا ّ تحلمين بيوم عرسي ، وألا ّ تزغردي لأفراحي ، غصة في الحلق ... كيف استطعت أن اختار هذا الرحيل إلى حيث لن تتدفأ قدماي ثانية قرب موقدك المستعر؟ البرد ...الآن عرفت البرد الحقيقي ، البرد الذي يتحول إلى خناجر تتوغل حتى العظم ، تخترقه ثم تبدأ بالتضخم ، نخاعي يتحول قضبانا من جليد ، شراييني ترتعد وأنا أغوص : وداعا أيتها السماء البعيدة ، لن أرى زرقتك بعد اليوم ولا برقك أو رعدك ، وداعا أيتها التلال فلن أرى حلتك الخضراء الموشاة بألوان قوس قزح بعد اليوم ولا سُفورك الخريفي الكئيب ، وداعا يا ابتسامة أمي وابتهاجها بتضاريس رجولتي التي ترقبها و ترصدها كل يوم بل وكل لحظة ، ويا حلمها البريء بيوم زفافي وبطقوس الفرح المرتقب : آه أمي كيف ذبحتك بهذا البرود؟ كيف كفرت بالحياة التي فيها رائحتك وعطر أمومتك وطمعت في حياة أكثر انفتاحا وحرية بل وتفسخا ، كيف بدالي أن الرحيل هو صفقة عمري وأن حياة ما وراء البحر هي ما ينقصني لأكمل فرحتي ؟ كيف أحرقت بيدي جنتي الزاهرة وأبدلتها بجحيم هذه الرحلة الملعونة؟ ها أنا أغوص ، فوقي مياه صفراء أليس الوقت ليلا؟ وحولي طبقات من المياه الصفراء أوَ ليس الوقت ليلا أم تُراني ميتٌ الآن وهذه دنيا الأموات ؟ هل ستتجمع حولي الآن جثت الذين عرفوني يوما ليسألوني عن أحبتهم الأحياء ؟ هل سيخرج من بينهم حسان الطاليان ويسألني عن حبيبته وكم حزنت عليه وممن تزوجت وإن كانت قد أنجبت ؟ وهل سيكون خبر موتي قد بلغك يا أمي ؟ آه أمي ها أنا أراكِ وأرى استعار موقدك المتوهج ، هاهو خبزك الطازج المستدير كوجه القمر يرتمي في حضن الطاجن الفخاري ليُسفع ويتحمّر، وهاهي رائحته المبهجة تملأ رئتيَّ ، رباه أوَلستُ ميتا؟ أماه ها أنت تقتربين ، ها يدك تحط على جبيني ، الدفء...أشعر بالدفء ، قوة عظيمة تسحبني إلى أعلى ، رجلاي تدفآن ، موقد أمي يقترب ، أسمع صوتا أعرفه يهتف : إنه حي ، إسحبو أكثر... إنه يتنفس ، إسحبوا...
مقدمة : هل نحتاج إلى أن يفوت الأوان أو يكاد ، حتى نفهم؟ وهل علينا أن نشرب من البحر قبل أن نتلذذ زلال هذه الأرض؟
ليل حالك الظلمة يطبق على صدري ، وأنا أندس بين أجساد باردة كل ما أعرفه عن أصحابها أنهم مثلي اختاروا امتطاء صهوة الجامح المغري : البحر الأبيض المتوسط ، ولكن : لماذا هو أبيض و متوسط ؟ السؤال مستفز لكني لا أستطيع التركيز وسط كل هذا الصخب ، صوت البحر يجتاح أذنيّ كالرعد وأنا أمعن في الالتصاق برفقاء الرحلة ، أحاول ألا ّ أرتعد لكن رجفة غامضة بدأت تنبض داخل صدري ، هل ستـنقضي الرحلة بسلام فتشرق شمس الغد وقد بلغنا الشاطئ الآخر ؟ ماذا لو انتهى بنا الأمر وليمة لأسماك البحر ؟ تذكرت كلام حسان الطاليان :( ياكلني الحوت فالبحر وما ياكلنيش الدود فالقبر) ظل يردد هذه العبارة حتى لفظ البحر جثته ذات صباح ، انتشلناها ودفنّـاه في مقبرة القرية وأكله الدود ... ترى كم جثة كان عليّ أن أنتشل حتى أدرك أن ما سيأكلنا في النهاية هو الدود وليس السمك؟
القارب يتهادى ، وصوت البحر يملأ ُ المكان ، الظلام يتكاثف و البرد يتحول إلى مسامير تنغرز في لحمي ، الأجساد الباردة تزداد التصاقا بي وأيدٍ كثيرة تمتد في صمت لتمسك بمناطق من جسمي ، هل يشعرون بمثل خوفي و بردي ؟ لابأس إذن ، لست وحدي ، سيمر بعض الوقت الصعب قبل أن يرسو بنا القارب في الضفة الأخرى ، و عندما نستقر هناك سنتذكر هذه الليلة مثلما يتذكر الواحد منا شقاوة الطفولة ،ترى هل هكذا شعر حسان الطاليان في بداية رحلته تلك؟ وهل قفزت إلى ذاكرته صورة شخص انتشله يوما ودفنه؟ هل سيتكرر معي نفس السيناريو؟ هل كنت أحمقا عندما قررت الرحيل؟ حسان كان معذورا : المسكين يعيش حياته الكادحة بمرارةٍ محبطة ، لا أستطيع أن أنسى منظره في صباحات الربيع ، عندما كان يصل متأخرا إلى المدرسة، منهكا ومبللا وخجولا ، وكيف صارحني ذات مرة أنه يضطر إلى النهوض باكرا ليتمكن من بيع رُزَم الشتائل والأعشاب الطبية المختلفة ، وكيف يتحتم عليه خفض السعر حتى يتخلص من حمولته قبل تمام الثامنة صباحا، ليتمكن في النهاية من الحضور إلى المدرسة في الموعد،ومع ذلك لم يواصل تعليمه واضطر إلى العمل نادلا في مقهى القرية، و ظلت ثيابه: (الشيفون) تؤكد رزوحه تحت نير الفقر، قال لي مرة :
( ليثني كنت ابن أبيك !! يحرم نفسه لأجلكم وليس مثل أبي الذي لا أذكر مرة اشترى لي فيها شيئا... أي شيء !! فمنذ صغري تحتم عليّ العمل والإنفاق على نفسي ، ورغم أن أترابي تزوجوا إلا ّ أني لا أسمح لنفسي بمجرد الحلم بذلك ، لأنني مجبر على إعالة إخوتي وأمي.)
آآآه المسامير تتوغل في لحمي أكثر ، وتصبح أشد إيلاما ، ولكن لابأس ، فلابد من ثمنٍ غالٍ للحصول على حلم غالٍ ، رذاذ البحر يرتطم بوجهي كحفنة من الحصى المسنّن ، وجهي يتحول إلى قطعة من الجليد ، ومع ذلك عليّ ألا ّ أفقد شجاعتي ، سأعوض كل خلية من جسمي عن كل لحظة ألم سببها هذا البرد اللعين : على الرمال الساخنة الممتدة على شاطئ المحيط ، سأتمدد عاري الظهر، ستحف بي حوريات الجزر النائية ، وهناك بعيدا عن العيون الحاسدة سأغرف المتعة حتى أغصّ ، لا أحد سيمنعني من إرواء ظمئي ، سأعربد حتى تنهار قواي العضلية وأتهاوى كالبغل ، آآآه البرد يشنّج أطرافي و الرذاذ يتحول إلى صفعات ٍ جليدية ، كم يمكن للقارب أن يصمد ؟ عددنا أكبر من طاقته لكن المشرف قال أن رحلات مماثلة كثيرة نجحت ، ولكن : لماذا لم تنجح رحلة حسان الطاليان؟ لماذا تخلى عنه حلمه بالوصول إلى شاطئ ليس فيه أب ظالم، وأم مستكينة ذليلة، وإخوة صغار جياع؟ لماذا أكله الدود قبل أن ينتقم من فقره المدقع وماضيه المفزع ؟ حسان...الطاليان : كان يحلم بالهجرة إلى إيطاليا وظل يجاهر بذلك حتى سميَ بهذا الإسم: الطاليان ،لا أستطيع نسيان ذلك المساء ، عندما ارتفع نحيبه وبكاءه وتجمع حوله الأطفال والمراهقون، كانت أمسية حزينة وناذرة ، للمرة الأولى يبكي أحدهم بصوت مرتفع من أجل حبيبته ، ويعلن أنه يتمنى أن تتزوج غيره وتنساه، لم أنجح في إسكاته إلا بعدما أفرغ ما في صدره من صراخ : كان قد شرب الكثير من الخمر، وكان مسربلا بقيئه وحزنه ودموعه ، لا أستطيع نسيان كلماته في تلك الليلة عندما حسبته يهذي ، قال لي :
(سأرحل عن هذه البلاد التي أنكرتني... سأتركها أمانة في رقبتك، لا تسمح لأهلها أن يزوجوها بمن لا يعرف قيمتها، أنت ابن عمها فلا تفرّط فيها)
لماذا أتذكره الآن وأنا محاط بهدير البحر الهائج وبأنفاس الخائفين وبهواجسي المفزعة ، هل سينتشلني أحدهم في الصباح ويأكلني نفس الدود الجائع الذي أكله؟ القارب يتمايل أكثر والموج يحاول ركوبه ، سرعة الموج وحجمه يزدادان والأيدي تتمسك أكثر ، صوت الرعد يصبح أقوى ،أشعر بالصمم ، هل هذه بداية الموت ؟ هل كان عليّ ارتداء المزيد من الملابس حتى لا يتسلل البلل و البرد إلى لحمي بهذه السرعة؟ أبي ؟ هل هذا ذنب أبي ؟ جمع ثروة حلالا من تجارته المتواضعة وبنى منزلا ليزوجني فيه ، على مدى سنوات طويلة ظل يرتدي نفس الملابس حائلة اللون، لكنه لم يفوت عيدا دون شراء كسوة جديدة لي ، لم يعلم أنني أحلم بحياة بعيدة ، وأنني أجمع ثروتي الخاصة من أجل الرحيل إلى حيث لن يراني ثانية، هل هو ذنب أمي؟ آآآه يا أمي ...كم فرحتِ عندما اكتشفتِ أنني قد أصبحت ُأطولَ منكِ ، آآآه يا أمي كم فاخرتِ زوجات أعمامي بي ، وأنتِ تُـقسمين أنكِ ستزوجينني ممن أختارها أنا لأنك لا تحلمين إلا ّ بسعادتي ، آآآه خناجر من جليد تمزق جسدي ، القارب ينتفض ، عليّ أن أربط معصمي بحبل قصير أثبته بلوح من ألواح القارب ، أبي قال لي – عندما اضطررنا إلى عبور النهر ذات مرة – ( عليك أن تختار لوحا وتربط معصمك به ، اللوح سيطفو بك وسيرشد إليك ) ، القارب يترنح مثل سكران ٍ يقاوم السقوط، لقد أترعته مياه البحر الذي ثار فجأة كأنه يريد لفظنا و التخلص منا ، الأمواج تتحول إلى كثل من الغضب الذي يتساقط على رؤوسنا ، وأنا أقاتل شراستها في محاولة مستميتة لأربط الحبل الموصول بمعصمي إلى ذلك اللوح ، لقد اخترت مكان جلوسي بجوار نتوء تعمدت أن أجعله في متناولي عند الحاجة ، وتأكدت أنه بالمتانة الكافية لتحمل عنف الأمواج الرعناء ، حمدا لله أنني ربطته قبل أن تتخذر أصابعي ، آآه القارب ينقلب ، الأيدي تضيع مني ، برد كالأزاميل يحفر في أعماقي ، الموج الغاضب يتخطّفني فيقذفني فيثنيني فيقلبني فيأ... هل سيأكلني الدود في مقبرة قريتي أم في قبر ٍ مجهولٍ بأرض لم تطأها قدماي يوما ؟ هل سيغرس أهلي أغصان الريحان والعطرشة على قبري أم ستدوسه الكلاب المدللة وتقضي حاجتها على العشب النابت فوقه ؟ جسمي يتحول إلى لوح جليد ، الموج يتقاذفني والموت يبدأ من قدميّ ، قدميّ ؟ رائحة الخبز الطازج من موقد أمي ، مطلوع أمي الساخن تناولنيه وهي تقول : ( اقترب ، أدفيء قدميك فمنهما يبدأ البرد ثم ينتشر ومنهما يبدأ الدفء أيضا ) ، مطلوع أمي المغمس بزيت الزيتون البكر ، لاشيء يدفيء أكثر من موقد أمي وخبزها الطازج ، حتى الرمال الساخنة على شواطيء الجزر النائية ، وحتى الأجساد الملفوحة بشمس سواحل المحيط ، آآآه رائحة الخبز،كيف استطعت أن أقرر الرحيل إلى بلاد لاتعرفني ؟ كيف سأحب حياة ليس فيها خبز أمي ولا لمستها الحانية إذ تمسّد شعري و تتحسسه قائلة : ( عليك أن تتذكر دائما أنك رأسمالي وكنزي ، نعم : يكنز الآخرون المال والمعادن الثمينة وأكنز أنا أولادي فليس عندي أغلى منك وإخوتك....) آه كم أحن إلى سماع صوتك يا أمي ، أدرك الآن فظاعة ألا ّ تمسّدي شعري ثانية ، وألا ّ تحلمين بيوم عرسي ، وألا ّ تزغردي لأفراحي ، غصة في الحلق ... كيف استطعت أن اختار هذا الرحيل إلى حيث لن تتدفأ قدماي ثانية قرب موقدك المستعر؟ البرد ...الآن عرفت البرد الحقيقي ، البرد الذي يتحول إلى خناجر تتوغل حتى العظم ، تخترقه ثم تبدأ بالتضخم ، نخاعي يتحول قضبانا من جليد ، شراييني ترتعد وأنا أغوص : وداعا أيتها السماء البعيدة ، لن أرى زرقتك بعد اليوم ولا برقك أو رعدك ، وداعا أيتها التلال فلن أرى حلتك الخضراء الموشاة بألوان قوس قزح بعد اليوم ولا سُفورك الخريفي الكئيب ، وداعا يا ابتسامة أمي وابتهاجها بتضاريس رجولتي التي ترقبها و ترصدها كل يوم بل وكل لحظة ، ويا حلمها البريء بيوم زفافي وبطقوس الفرح المرتقب : آه أمي كيف ذبحتك بهذا البرود؟ كيف كفرت بالحياة التي فيها رائحتك وعطر أمومتك وطمعت في حياة أكثر انفتاحا وحرية بل وتفسخا ، كيف بدالي أن الرحيل هو صفقة عمري وأن حياة ما وراء البحر هي ما ينقصني لأكمل فرحتي ؟ كيف أحرقت بيدي جنتي الزاهرة وأبدلتها بجحيم هذه الرحلة الملعونة؟ ها أنا أغوص ، فوقي مياه صفراء أليس الوقت ليلا؟ وحولي طبقات من المياه الصفراء أوَ ليس الوقت ليلا أم تُراني ميتٌ الآن وهذه دنيا الأموات ؟ هل ستتجمع حولي الآن جثت الذين عرفوني يوما ليسألوني عن أحبتهم الأحياء ؟ هل سيخرج من بينهم حسان الطاليان ويسألني عن حبيبته وكم حزنت عليه وممن تزوجت وإن كانت قد أنجبت ؟ وهل سيكون خبر موتي قد بلغك يا أمي ؟ آه أمي ها أنا أراكِ وأرى استعار موقدك المتوهج ، هاهو خبزك الطازج المستدير كوجه القمر يرتمي في حضن الطاجن الفخاري ليُسفع ويتحمّر، وهاهي رائحته المبهجة تملأ رئتيَّ ، رباه أوَلستُ ميتا؟ أماه ها أنت تقتربين ، ها يدك تحط على جبيني ، الدفء...أشعر بالدفء ، قوة عظيمة تسحبني إلى أعلى ، رجلاي تدفآن ، موقد أمي يقترب ، أسمع صوتا أعرفه يهتف : إنه حي ، إسحبو أكثر... إنه يتنفس ، إسحبوا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق