الخميس، 18 أبريل 2013

نكأت جرحي حتى كدت أبكي ؟


نكأت جرحي حتى كدت ابكي ؟
بقلم : رتيبة بودلال
إطلع على مواضيعي الأخرى
[ شوهد : 630 مرة ]

هذا تعليق للاستاذة رتيبة بودلال على الاستاذمحمد فاتح حرامي الذي يبكي وطنه .. و نظرا لجمالية الرد و صدقه ارتأينا في اصوات الشمال تحويله الى موضوع .
أخي محمد الفاتح حرامي : نكأت جرحي حتى كدت أبكي ، اختلطت علي مشاعري : هل أبكي على حال أمنا الجزائر مع العاقين من أبنائها ، المجحفين في حقها ، أم أبكي على البسطاء منهم إلى درجة الغفلة وعدم تقدير أفضالها ، أم أبكي من الفرح لأن من بين أبناء الجزائر شاب مثلك يحمل همها بكل هذا الوعي والإخلاص ؟ نعم يا أخي : قلتَ كل ما كان ينبغي أن يُقال وبأسلوب هادىء رزين ، وهذه مهمة المثقف : مخاطبة الآخرين بلغة مفهومة ، دقيقة ومباشرة ، لكن بالعمق الكافي لإثارة عصب الوعي المخذَّر.
نعم ( في الجزائر ثروة سمكية نتعاقد مع شركات إسبانية لصيدها و تعليبها، لأن طاطا زهية تخاف على إبنها من الغرق.) لكن لابأس أن يتسلل إلى قوارب الموت ليلا ليحرق إلى جنوب فرنسا أو إيطاليا ويعمل في غسل الصحون بإحدى المطاعم ، أو حتى في جني الزيتون بإحدى المزارع المتوسطية ، المهم ألا تراه طاطا فتيحة وتشبع شماتة .
طرحك رائع يا محمد وقولك : ( سنذهب للعيش في صحرائنا العظيمة، و سنفتح هناك ورشات حدادة و نجارة و تفصيل ملابس، و سيتضاعف عدد السكان في مدن الجنوب، و تزيد الحاجة باستمرار، إلى أطباء و معلمين ، فتشيد المستشفيات و المدارس، و العمارات السكنية، و المراكز الترفيهية، و يمكن لها أن تستوعب كل الشعب، و يمكن لكل إنسان أن يحصل على عمل و سكن و دخل يلبي احتياجاته، فقط لو أننا ضحينا و تخلينا عن طبيخ أمهاتنا، و حضن أمهاتنا، لثلاثين عاما، و يمكن بعد ذلك لأولادنا ، أن يستمتعوا بطبيخ أمهاتهم كما يحلوا لهم. ) هو رؤية مستقبلية واعية ، وأسباب تحقيقها بنجاح موجودة فعلا ، لكن عيبنا أن من يكتشف فرصة نجاح يستأثر بها لنفسه ولا يدل غيره عليها رغم أن ( الدال على الخير كفاعله ) مثلا :
أنا أعيش في إحدى ولايات الجنوب الجزائري منذ أربعة سنوات فقط ، لاحظت غياب ثقافة التخضير والزرع لدى سكان المنطقة وبحكم عملي كأستاذة دعوت بعض تلاميذي بمناسبة عيد الشجرة إلى مشروع بسيط : زراعة أي نوع من النبات ، حتى ولو في إصيص بشرفة المطبخ ثم العناية به كأنه ولدنا المدلل العزيز ، بعد عام أخبرني معظمهم أنهم لأول مرة يكتشفون أن نباتات غير شجر النخيل يمكن أن تنبت في بيئتهم الصحراوية بل منهم من أخبرني أن أقارب له جربوا زراعة الموز وبعض النباتات الاستوائية فنجحت التجربة ، بينما أخبرني أحد التلاميذ مؤخرا أن عائلته جربت زراعة شجر الزيتون والمشروع قيد المتابعة ، كما اكتشفت أن صحراءنا غنية جدا بالمياه ، الماء وافر لكن الفرد الصحراوي نشأ على زراعة النخلة فاكتفى بها .
كذلك لاحظت أن الشباب هنا لاينتبهون إلى المشاريع الصغيرة ، بل كل هم الواحد منهم طاولة يبيع فوقها الشاي والفول السوداني ، ويضيف صيفا : الشراب الطازج الذي يعده بوضع مزيج من الفواكه وقطع الثلج في خلاط المطبخ ليجهز في ثوان أمام الزبون ، هذا هو المشروع الوحيد السائد ، رغم كل المعطيات التي تعد بالنجاح في أي مشروع آخر.
من هذا المنطلق أدعو الشباب في صحرائنا الفسيحة إلى مد أيديهم لأبناء وطنهم الوافدين من الشمال والتعاون معهم من أجل استثمار أمثل لمعطيات المنطقة ، والاستفادة من خبرة بعضهم في خلق فرص للعمل الجاد ، خاصة أنني لمستُ عدة مرات استياء شباب الجنوب مما يعتبرونه غزوا شماليا ، في حين أن ما يحدث فعلا هو أنهم لم يمدوا أيديهم لقطف ثمار جنتهم فلما امتدت إليها يد غيرهم ارتعبوا ، وكل ما أخشاه أن تمتد إلى هذه الجنة يد غير جزائرية ونحن نتفرج بل وقد نصفق كالبُلهاء مادام هذا الذي جاء ليس من أبناء بلدنا .
ألم أقل لك : نكأت جرحي ؟
شكرا محمد ، تحيتي واحترامي لفكرك النابض
نشر في الموقع بتاريخ : الثلاثاء 19 رجب 1432هـ الموافق لـ : 2011-06-21
التعليقات
محمد الفاتح حرامي
شكرا لك يا سيدتي الكريمة على التفاعل مع هذا الموضوع، و عندما أتجول في شوارع مدينتي - خنشلة - أثناء الإجازات، و أشاهد الطريقة التي نعيش بها، و طريقة الحوار بين الناس، و حتى ملابسهم، و تنظيم المرور ، و أشكال المباني، أتأسف كثيرا على التقهقر المستمر و التسيب و اليأس.
الجزائر أكبر من دول بلاد الشام و العراق معا، و مع ذلك لا نسمع لها صوتا لا في شأن عربي و لا دولي، و لأن الجزائر كما ذكرت في مقالتي ، تكاد تكون كالهند في المساحة، لكن الهند الآن تخصصت في الصناعات الثقيلة ، و صناعات الكمبيوتر، و نحن تخصصنا في اللاشيء.
حتى تمور " دقلة نور" الجزائرية بامتياز، لا نجد لها أثرا، بينما نجد في أسواق الخليج، دقلة نور تونسية، و أتسائل ، لماذا؟؟؟
على كل حال ، لا أريد أن أنكأ جراحي و جراحك و جراح كل جزائري غيور على هذا البلد، لكنها رسالة يجب أن نبلغها.
شكرا لك سيدتي الكريمة، و حضورك في مقالاتي شرف لي.
ف الزهراء بولعراس
طابت أوقاتك يارتيبة
هي حقائق وأوجاع تؤرقنا وواقع أكثر منها وكما قال محمد الفاتح هناك مظاهر لانكتشفها إلا إذا رأينا وعشنا في أماكن أخرى
بلادنا جميلة وأجمل مما نتصور ولكن شبابنا يعمى عنذلك ويلهث وراء السراب..
شباب يتهم الدولة بأنها لا تممنح الفرص ودولة تتهم الشباب بالكسل والحقيقة أنه كل شئ موجود من هذا ومن ذاك وبلدنا الذي يستطيع أن يعيش فيه أكثر من مئة مليون هاهو يتناحر من أجل بضعة ملايين
المنظفة في بلدنا ترفع صوتها أمام مديرها....ولا تعمل نصف مايطلب منها والمكاتب مليئة بالغبار وأشياء أخرى
هل تعرفين أن المنظفة في الخليج راتبها نصف راتب المنظفة عندنا وتبقى ممسكة بآلات التنظيف لمدة ثمان ساعات دون أن تجرؤ على التفكير في المغادرة إلا بعد أن ينتهي دوامها...كلنا متواطئون على الخراب والأوضاع المأساوية لا يصنعها شخص أو أشخاص بل يصنعها نظام قائم ونظام مواز وهانحن نجني الويلات
لقد كتبت شيئا من انطبعاتي عندما عدت من الخليج وسانشر بعضها عندما أنتهي منها وكلها انطباعات مملوءة بالمرارة لأنني أدركت كم نحن بؤساء في بلد غني وكم نحن غير واعين بما نحن مقبلون عليه...الكلام كثير أيتها الفاضلة لكن العبرة في السؤال ماالحل؟
أنا أنزف وأنا أرى هذه الأوضاع والسطحية التي أصبحنا نعيش بها والتفكك...والتناقضات....
لست أدري ماذا أقول ولكن قد يرجع ذلك إل الجهل والعلم الناقص.لأن العلم الناقص يضر أكثر من الجهل...
سيدتي الفاضلة...جراحنا ستظل مفتوحة إلى أن ينضع القطار عجلاته على السكة الصحيحة فمنى يكون ذلك ياترى؟ظ
شكرا رتيبة
تحياتي لشموخك الذي لازال يرمز إلى أن هناك أملا ولوكان بعيدا
مودتي
هارون زنانرة
والوطن ..جرح مسجى على ليل متخم بالدمع والآهات والخديعة..
في ليلك العميق ياوطني ..أخدوا سمره وتركوا لنا برده وظلمته ..ودهاليز اللحظة الهاربة من حمى الواقع وكسل مؤشرات الزمن..وطن غني لشعب فقير تأخد شبابه كوابيس السفر بالموت الى جنات وهمية ..
من حضن وطن ملّ أبناءه..وينزف الجرح ..وتبقى الخديعة دون رادع..
سادتي ..قرأت هنا ماراق لي ..
شكرا..
هارون زنانرة
والوطن ..جرح مسجى على ليل متخم بالدمع والآهات والخديعة..
في ليلك العميق ياوطني ..أخدوا سمره وتركوا لنا برده وظلمته ..ودهاليز اللحظة الهاربة من حمى الواقع وكسل مؤشرات الزمن..وطن غني لشعب فقير تأخد شبابه كوابيس السفر بالموت الى جنات وهمية ..
من حضن وطن ملّ أبناءه..وينزف الجرح ..وتبقى الخديعة دون رادع..
سادتي ..قرأت هنا ماراق لي ..
شكرا..
أحمد بلقمري
الفاضلان محمد فاتح حرامي و رتيبة بودلال
استمتعت كثيرا بخطابيكما الراقيين..الحل في الجزائر أن نتجه لبناء عاصمة ثانية في الجنوب لإحداث التوازن في التنمية و تحقيق التنمية و الثروة..الموضوع ذو شجون..تقبلا تقديري
جميلة طلباوي
الأستاذة رتيبة بودلال
أيتها الأصيلة
أمرّ من هنا لأحييك تحية تليق بقلمك ، هي صحراؤنا التي ظلمتها الجغرافيا تعاني الحرمان، تقتل أبناءها الرتابة و ويحبطهم الفراغ ،تتشعّب هموم الصغار و الكبار فيها ...
و الصحراء عندهم ..
في الإمارات العربية المتحدة كمثال قريب بما أنّها دولة عربية تتلألأ جنّة فوق الأرض ، و الحديث عن الصحراء الأمريكية شيء آخر ..
ما أجمل بلادنا الشاسعة الكبيرة ، لكن أين الخلل؟
سؤال موجع كلّما استوقفنا..
الشكر موصول للأخ محمد الفاتح و للأستاذة فاطمة بولعراس و لكلّ الأقلام الأصيلة التي شاركت في الموضوع.
رتيبة بودلال
شكرا لأصوات الشمال على تحويل تعليقي إلى موضوع مستقل ، شكرا كما ينبغي أيها الرائعون في أصوات الشمال ، غبت عن النت يومين ثم عدت لأجد كل هذا التواصل ، فألف ألف شكر.
رتيبة بودلال
أخي محمد الفاتح حرامي ، ما تراه في مدينتك خنشلة موجود في كل ولايات الجزائر مع الأسف ، لقد عشت في عدة ولايات ، ومارست مهنتي ( كنت منذ 1993 حتى فيفري 2011 أستاذة رياضيات - التعليم الثانوي ) في كل منها مما وفر لي فرصة الاقتراب من الفرد الجزائري العادي ، و هذا ما يجعل كلامي مؤسسا على وقائع حقيقية ، كم من غصة ابتلعت وأنا أشاهد غرق الجميع في مستنقع العقليات الهدامة ، وذلك التواطؤ الجماعي على نسف كل بارقة أمل : التعاليق المُحبطة ، ذوبان القيم ، السخرية من أي شخص مخلص في عمله ، التطبيع مع كل ما ينافي الطموح والإرادة ، وهلم جهلا ، وإذا تكلمتَ معهم بإيجابية اعتبروك خارج مجال التغطية ، ومدَّعِ للمثالية ، ومجرد مُرائي ، كل ذلك تنضح به أفعالهم وتصرفاتهم التي أبرزها : الكسل الفكري وانعدام الطموح والإرادة ، طبعا مع مهارة مُلفتة في شتم وسب الظروف وفساد الآخرين و عدم صلاح هذه البلاد لأي شيء ...وقس على ذلك .
ذات مرة طلب مني أحد تلاميذي أن أتدخل من أجل إقناع أمه بالسماح له ليلتحق بأحد أسلاك الأمن ، كانت في الواقع عائلته كلها بل عرشه كله يرفضون ذلك بحجة أنه سيضطر للعيش بعيدا عنهم ، وهذا البُعد طبعا لن يخرج عن حدود الوطن ، حدث هذا في 2010 !!
أخي محمد أجدد لك الشكر والتحية ووافر التقديروالاحترام. 
رتيبة بودلال
الفاضلة ، والأخت العزيزة فاطمة الزهراء بولعراس ، وأوقاتك أطيب ،سيدتي ، فعلا تتضح الرؤية أكثر عندما نبتعد بالقدر الكافي ، ربما أنا أيضا ساعدني التنقل عبر عدة ولايات ، ثم العودة إلى جيجل صيفا لقضاء العطلة مع الأهل ، في رؤية أشياء كثيرة ، لكنني متأكدة أن سفركم إلى الخليج فتح أعينكم على إمكانية تحويل الصحراء إلى جنة ، وإلى حجم إمكانات التنمية بل القفزة التنموية المتوفرة ، والتي تظل مشلولة لأسباب يتحمل المواطن مُعظمها ، بسبب ذلك السقف المنخفض من الطموح والذي لا يتعدى عند معظم الناس الحصول على راتب شهري قار ومضمون بمجرد إثبات الحضور اليومي في مقر العمل ، بل يمكن عدم الحضور وليتكفل الزملاء بالتغطية ، المهم الراتب الشهري لا ينقص دينارا واحدا ، وبالتوازي مع الوظيفة يمكن ( التبزنيس ) في ما خف حمله وغلا ثمنه ، نعمة ما بعدها نعمة وليذهب الطموح إلى الجحيم...
آآآآآه أختي ماذا أقول ؟ عندما أرى بعض المحسوبين على التربية يسخرون من ( تحية العلم ) أتساءل عن مقدار حب الوطن الذي يعلمونه لأولادنا ، وعندما ...وعندما.....
على كل حال أنتظر بشغف انطباعاتك ، وأشد على يدك بحرارةعن قولك ( لأن العلم الناقص يضر أكثر من الجهل...)
مودتي ومحبتي ، احترامي وتقديري.
رتيبة بودلال
أخي هارون زنانرة ، شكرا على مرورك المميز ، وحسك الوطني العميق ،
( وطن غني لشعب فقير تأخد شبابه كوابيس السفر بالموت الى جنات وهمية ) نعم جنات وهمية ، فالذي لم يستطع صنع الجنة في وطنه لن يقبله الآخرون في جنتهم ، هي جنة لأهلها أما الذي يخرب كراسي الحافلة ، والمصابيح العمومية ، ويدمر السبورة جدار المدرسة لا يستحق الجنة ولو دخلها لأفسدها، علينا إذن أن نصنع جنتنا في وطننا لا أن نهفو إلى جنان الغير .
تحيتي وتقديري .
رتيبة بودلال
أخي أحمد بلقمري : شكرا على هذا التواصل الجميل ، فعلا الحديث ذو شجون .....
تحيتي وتقديري .
رتيبة بودلال
الفاضلة ، والمتألقة دوما جميلة طلباوي ، أشكر اهتمامك الذي يدل على أصالتك بدورك ، وعلى مستوى اهتماماتك ، فعلا : الصحراء عندهم جنة وعندنا !!
( ما أجمل بلادنا الشاسعة الكبيرة ، لكن أين الخلل؟ )
الخلل فينا يا أختاه ، بما أن الصحراء عند غيرنا جنة فلماذا لا نصنع جنتنا بأيدينا ؟ قبل أن أسافر إلى الصحراء كنت أتصور أنها مجرد خيام ونوق و رمال ، ماذا يعرف سكان الشمال الجزائري عن الصحراء الجزائرية ؟ وعندما دخلتُ ورجلان ( ورقلة ) في خريف 2007 أخذتني الدهشة وأنا أشاهد انحناء النخلة الشامخة بجلال ووقار لأنها محملة بالعراجين الناضجة ، انبهرت حد البكم من جمال منظرها كامرأة حامل توشك أن تضع وليدها ، عندما شقت بنا السيارة الطريق إلى سيدي خويلد ، استمتعت بذلك الإحساس الفريد : السير في طريق يشق مجمع الكثبان الذهبية ( السّْيوفة) كأن السيارة تمشي وسط البحر لكنه بحر ذهبي ، تخيلت إحساس سيدنا موسى عليه السلام والذين عبروا معه عندما ألقى عصاه ، وداهمتني موجة من الغبطة ، ومنذ ذلك اليوم وقعت في حب الصحراء ..
شكرا جميلة ، تحيتي الحارة واحترامي الكبير.


حفل تحنيط
بقلم : رتيبة بودلال
إطلع على مواضيعي الأخرى
[ شوهد : 427 مرة ]

وقف وسط الردهة يستجمع شجاعته ، سيخرج على قدميه فالأسود لا تجلس على الكراسي المتحركة ، الأسود إما أن تمشي على أقدامها وإما أن تموت .
وقف أمام المرآة وامتدت أصابعه المرتعشة لتعدل هندامه الأشيب ، اليوم أول نوفمبر وهو مدعو لإحياء الذكرى رفقة من أخلفهم الموت بعدما خلََّفهم مجد الإستشهاد ، راح يتذكر بحسرة آخر رفيق سلاح توفي منذ أشهر ، رحمه الله وحشره في زمرة الشهداء ، وقعت عيناه على الكرسي المتحرك الذي جلبه له أحد أولاده فتنهد بعمق وحرقة ، قبل أن تمتد يده إلى العصا التي يستعين بها على المشي :
- اللعنة ...هل كان عليهم أن يعمقوا شعوري بالإعاقة هكذا ؟ كرسي متحرك ؟ أنا ..فوق كرسي متحرك؟
وقف وسط الردهة يستجمع شجاعته ، سيخرج على قدميه فالأسود لا تجلس على الكراسي المتحركة ، الأسود إما أن تمشي على أقدامها وإما أن تموت ، فجأة كاد يفقد توازنه فانفجر ساخطا:
- اللعنة عليكم أيها الشياطين الصغار ، لماذا تقفزون بين رجليَّ هكذا ؟ هل تنوون إسقاطي ؟ هيهات لكم....اللعنة على قلة تربيتكم...
ثم أكمل سيل الشتائم والسباب ، بينما واصل الأطفال جريهم ومرحهم ، وهم يرددون بصوت موحد منتش ٍ : ( غٌذوه مانقراوشْ ...شرالي بابا زاوشْ ...حطِّيتو فالبتـِّـيَّه...خرجلي بوسعديَّه.....
كاد أن يقول لهم أشياء كثيرة لكنه أدرك أن لا أحد يسمعه ، الأطفال يركضون ويغنون ، سعداء بهذه العطلة القصيرة التي أتاحها لهم عيد الثورة ، لكن ليس منهم من يستطيع أن يتخيل ما يعنيه هذا اليوم له ، ولا ماكان يمكن أن يكون لولا تلك الشعلة من نار ونور التي أطلقها أجدادهم عندما آمنوا في لحظة يقين أن الحرية تفتدى بالدماء ولا تستجدى بالكلام ....
- الله يرحمك يا بوخميس يا خويا ....
قالها متمتما ثم زمَّ شفتيه طويلا قبل أن يواصل طريقه نحو باب الخروج ، بينما سمع كنَّاته من خلفه يتهامسن :
- صار أكثر إزعاجا ...لا يكف عن زجر الأطفال والحد من حريتهم ..
- المسكين منذ الوعكة الصحية الأخيرة وهو يتصرف بهذا الخرف ..
- اصمتن وإلا نالت كل واحدة منكن نصيبها من إعادة التربية ....
- لا عليك ..قولي ما تشائين فقد صار سمعه ثقيلا....
واصل طريقه بلا مبالاة ، وهو يحمد الله أنهن يعتقدن أن سمعه ثقيل ، هذا يريحه لأنه يستطيع تجاهل تفاهاتهن اليومية ، دون أن يفقد هيبته ووقاره ، هيبته؟ وأية هيبة مازالت في زمن ( غذوه ما نقراوش )؟ وأية هيبة تبقت له بعدما أصبح في نظر أفراد أسرته مجرد عجوز خرف ، يملك تقاعدا مغريا ؟ مجرد بقرة حلوب ، اللعنة على ذلك اليوم الذي بدأ يقبض فيه تقاعده ، مذ ذاك لم يستطع تمييز من يحبه ممن يحابيه :
- إيييه....الله يرحمك يا خويا بوخميس ...
ظل ينقل خطواته على امتداد الشارع القصير الذي يفصل بيته عن مقر قسمة المجاهدين ، كان يمشي هذه الطريق في دقائق معدودة قبل أن يتسبب ارتفاع الضغط الدموي في شبه شلل نصفي بشقه الأيسر ، قال له الطبيب لاحقا في إحدى زياراته الدورية : ( في مثل وعكتك هذه ، إذا نجا المريض من الموت فإنه لا ينجو من شلل نصفي يقعده بقية حياته ، أنت من طينة ناذرة من البشر الذين تتغلب قوة روحهم على المرض ، تهانيَّ ) تذكر ذلك فامتلأت صدره بمزيج من الغبطة والأسى واختلطت عليه مشاعره حتى كادت الدموع تطفر من زاوية عينه اليمنى ، فاليسرى لم تعد تمطر ، لكن لافتة بيضاء وقفت في أفق نظره مكتوب عليها بخط عربي أنيق ( ثانوية الشهيد السعيد بوخميس المختلطه ) وحينها بردت الدمعة الواقفة في طرف جفنه ، ثم تلاشت وهو يتذكر اليوم الذي استشهد فيه ابن عمه وأخوه من الرضاعة ، بوخميس الجنيور ، كان يدرس بالمرحلة الثانوية عندما استبدل كراريسه بالبندقية ومئزره بالقشابية ، كان يحلم أن يصبح مهندسا لكنه استبدل حلمه ذاك بآخر اسمه ( الحريه ) كانت ابتسامته أصفى من سماء ربيعيه ، وكان...كان...
انتبه على صوت مستقبليه وهم يرحبون به ، ويبدون دهشتهم لمجيئه ، ربما اعتقدوا أنه سيرسل من ينوب عنه ، لكنه فاجأ الجميع وحضر ، حضر ليلتقي بمن تبقى من رفقاء الذكريات ، لقاء قد يتكرر بعد أشهر أو بعد عام وقد لا يتكرر أبدا ، إنهم يتناقصون مرة بعد مرة ، في الماضي كان عددهم بالعشرات وهاهو اليوم يتقلص إلى بضع عشرة مجاهدا ، تبادل معهم طقوس التحية والمواساة ، وإيماءات العزاء المتبادل ، ثم حان وقت تسليم التكريمات ، كل شيء صار مستعجلا في هذا الزمن ، لكن لابأس بذلك ، سيمنحه هذا مزيدا من الوقت بعد الحفل ليتبادل الأحاديث مع أصدقاء الوجع أولئك ، حان دوره ليتسلم التكريم ، كان مصرا على اعتلاء المنصة وإلقاء كلمة ، لكن منظمي الحفل أعفوه من ذلك ، إذ تقدم منه أحدهم والارتباك باد على وجهه قائلا :
- فكرنا أن نبعث لك هذه ..... لكنك حضرت إلينا بنفسك ، سننقلها إلى بيتك لاحقا ....
نظر مليا إلى الهدية ، زمَّ شفتيه مطولا وهو يحرك رأسه يمينا ويسارا ، كرسي متحرك ؟ الجميع يريد تعميق حزنه وإحساسه بالعجز ، من قال لهم أنه بحاجة إلى كرسي متحرك؟
- اللعنة على تكريماتهم المقيته ، هل يريدون تحنيطي ؟
استجمع ما تبقى من قواه ، وغادر القاعة بتثاقل وأسى ، وفي طريق عودته إلى البيت ظلت أصوات الأطفال تردد في بلاهة : غذوه مانقراوش...شرالي بابا زاوش .......
نشر في الموقع بتاريخ : الاثنين 24 ذو القعدة 1431هـ الموافق لـ : 2010-11-01 
التعليقات
فاديا عيسى قراجه
المبدعة رتيبة :
لوحة داكنة لمصير من دفعوا بأرواحهم من غير حساب كي يبقى الوطن عزيزاً كريماً ..
هذا كل ما استطاع صناع القرار أن يضمدوا به جراح الجراح
جميلة أنت يل صديقتي ..
جميلة طلباوي
الأستاذة رتيبة بودلال
لك منّي تحية تليق بك
ربّما نحن أبناء المجاهدين يتملكّنا إحساس خاص كلّما حلّ أول نوفمبر ، نسترجع تلك اللّحظات الجميلة التي كنّا نقضيها مع آبائنا المجاهدين و هم يحدثوننا عن تلك الارادة القوية التي كانت لديهم في تحرير الأرض ، لهذا تجديننا نتأمّل أحوال أولئك الذين بقوا على قيد الحياة متألّمين من وضعهم و ظروفهم و من إحساس مرّ عندما لا يجدون اهتماما من الجيل الجديد بتضحياتهم و بالأخص عندما يخالجهم شعور بأنّ هذا الجيل لم يعرف ثمن الحرّية ،هنالك خلل ما..
و كأنّي بك كتبت نصّك هذا من دم و دموع.
نترحم على أرواح الشهداء و المجاهدين الذين غادروا الحياة و كلّ الاحترام لأولئك الذي ما زالوا على قيد الحياة و ما بدّلوا تبديلا.
فائق احترامي و تقديري.
عمر الحرفاني
قصتك متوسطة الإبداع هذه المرة على الرغم أننا عرفناك قاصة جيدة في كثير من النصوص الإبداعية..
شكرا جزيلا لهذه الاستمرارية
الصديقة فاديا
ما أسعدني بمرورك هذا ، فعلا: اللوحة داكنة لكن الموجع أكثر أنها واقعية مئة بالمئة ، تحيتي لروحك الشفافه.
رتيبة بودلال
الأستاذة جميلة طلباوي :
لقد وضعتِ يدك على شفة الجرح : نحن أبناء المجاهدين نكتشف يوما بعد آخر مقدار ما تعنيه الذكرى ، نكبر وتكبر معنا مشاهد ذلك الإنطفاء والخبو في عيون من عرفناهم أسودا ، أخشى أن يجيء زمن لانجد فيه رجلا واحدا من فصيلة ( مجاهد ) على قيد الحياة ، حينها فقط سندرك أي عمر أهدرناه وأية فجيعة عصفت بنا ...يوجد خلل أي نعم : ربما هو شحُّ ثقافة الحوار في يومياتنا ، فأنا متأكدة أن أجيال ما بعد الإستقلال لايقلون حبا لوطنهم عن أي جيل آخر ( ولنا في تداعيات أم درمان مثالا جليا ) لكن الأزمة حقا هي غياب التواصل بين جيل الثورة وخلفه ، وهو شيء قد يكون بفعل فاعل يجتهد في تقزيم الروح الوطنية بطرق غير مباشرة في غياب الوعي الجماعي وفي غفلة من أصحاب النوايا الطيبة : فالطيبة أحيانا تصبح مرادفا للبلاهة.
وافر التقدير ووابل التحايا. 
رتيبة بودلال
الأخ عمر الحرفاني : لا تتصور كم أسعدني أن أقرأ تعليقا صادقا من شخص لا أعرفه ، ينبهني إلى انخفاض مستوى الإبداع فيما كتبت ، لأن ذلك يدل على أنني لست وحدي ، ثمة من يرصد نبض حرفي ويراقبه وينبهني عند الضرورة ، أشكرك مرة ثانية وأعترف أنني كتبت ذلك المشهد باستعجال ، وعذري أنني لم أستطع تجاهل المناسبة المفخرة ، التي تثير فينا أحيانا زوابع الأسى عندما نعرف أن رجالا كُثرًا ممن قدموا شبابهم وقودا للثورة ، يعيشون على هامش الحياة ، وسط من لا يدرك رفعة مقاماتهم ومدى علو هاماتهم ، كتبت باستعجال لأن وقتي وطاقتي مُحتلاّن من طرف ضرتين متنافستين : وظيفتي كأستاذة رياضيات من جهة ( أقسام نهائية ) وطبيعتي كأم وزوجة محبة لأسرتها ، أما الكتابة فهي عشيقتي السرية ويبدو أنني التقيتها على عجل هذه المرة ، فمعذرة لذوقك الكريم ، وأعدك بالتخلص من الضرة الأولى عما قريب إن شاء الله ، وإعطاء مساحة أكبر من وقتي وجهدي للكتابة .
شكرا مرة أخرى ، دم صادقا و بألف خير.

لمن تقرأ زبورك يا جمال غلاب ؟


بقلم : رتيبة بودلال

عندما قرأت هذا المقال الجاد ، اعتبرته نورا كاشفا يتسلط على نقطة هامة من المشهد الأدبي في بلادنا ، وتوقعت أن يستفز بعض الأقلام الجادة ، لتتفاعل معه رفضا أو قبولا ، لكن بالموضوعية الكافية لجعل الاختلاف في الرأي انتصارا للحقيقة ، وبحثا عنها ، وليس انقساما وخلافا مفضيين إلى العداوة الفكرية .

لكنني فوجئت بعمق هذا الصمت ، وهذا التجاهل لموضوع هو من صميم الهم الثقافي الذي ينبغي أن تحمله الأدمغة وتنزف له الأقلام :

ماهو الشرط اللازم والكافي لجعل الكاتب منتميا إلى جنسية بلده : هل هي شهادة الجنسية ، أم هي نسبة انخراطه في قطيع المهللين المنافقين للسلطان ؟ أم تراها تكون في التزامه التغريد باللغة الرسمية لهذا البلد ؟ 

( 1 ) – لا...ليس كل الصمت حكمة ً:
أتوجه إلى الأستاذ الفاضل جمال غلاب بالشكر على موضوعه (النص الروائي الجزائري و التأريخ له ...؟) الذي ينتصر للإبداع دون أن يحفل بالقشور ، وأعتذر له نيابة عن كل الذين صمتوا ، جهلا أو تجاهلا ، أو يأسا من واقع يبرك على صدورهم كاللعنة المؤبدة ، وأعتذر للحرف الذي يحاول الجهل ردمه تحت ركام العُقد ، وأنقاض الجاهلية ، وتحت طبقات من الظلمة والظلم .
عندما قرأت هذا المقال الجاد ، اعتبرته نورا كاشفا يتسلط على نقطة هامة من المشهد الأدبي في بلادنا ، وتوقعت أن يستفز بعض الأقلام الجادة ، لتتفاعل معه رفضا أو قبولا ، لكن بالموضوعية الكافية لجعل الاختلاف في الرأي انتصارا للحقيقة ، وبحثا عنها ، وليس انقساما وخلافا مفضيين إلى العداوة الفكرية .
لكنني فوجئت بعمق هذا الصمت ، وهذا التجاهل لموضوع هو من صميم الهم الثقافي الذي ينبغي أن تحمله الأدمغة وتنزف له الأقلام :
ماهو الشرط اللازم والكافي لجعل الكاتب منتميا إلى جنسية بلده : هل هي شهادة الجنسية ، أم هي نسبة انخراطه في قطيع المهللين المنافقين للسلطان ؟ أم تراها تكون في التزامه التغريد باللغة الرسمية لهذا البلد ؟
( 2 ) – هل سنتبرأ من صاحب ( الحمار الذهبي ) ؟
هل الكتابة بغير اللغة الرسمية للبلد كافية لنزع الجنسية عن الكاتب ؟ماذا عن الكاتب الذي يكتب بلغة بلده ثم يكون فكره ورسالته مُعاديان لمقومات بلده الثقافية والتاريخية والدينية ؟ هل يصُبح كاتب ما منتميا إلى بلد ما لمجرد أنه كتب بلغته ؟ و هل سنعتبر المستشرقين إذن عربا أقحاحا ، بل و جزائريون حتى العظم لأنهم كتبوا بالعربية ولها ؟ وهل بالمقابل سنُسقط الجنسية الجزائرية عن مالك حداد ومحمد ديب ومولود معمري وآسيا جبار ؟ وهل سيصبح رشيد بوجدرة وأمين الزاوي نصفا جزائريان لأنهما يكتبان باللغتين العربية والفرنسية ؟ وإذن هل سنتبرأ من صاحب أول رواية في التاريخ ؟ لوكيوس أبوليوس : ذلك الخطيب الأمازيغي النوميدي ، الفيلسوف ، العالم الطبيعي و الكاتب الأخلاقي ، الروائي و المسرحي ،الملحمي والشاعر الغنائي الذي كتب أول رواية في تاريخ البشرية بعنوان ( الحمار الذهبي ) ؟ هل سنتبرأ منه رغم أنه ابن مدينة مادور ( مداوروش حاليا) التابعة لولاية سوق اهراس الجزائرية ، لمجرد أنه كتب روايته باللغة اللاتينية القديمة ؟
( 3 ) – عندما يصبح صمتنا خطيئة :
لقد انطلق الأستاذ جمال غلاب في كتابة مقاله من حادثة حقيقية موجعة ، وهي أن(( مؤخرا و بموازة مع عقد اتحاد أدباء و كتاب العرب لدورته ـ أيام ـ . حاول بعض النقاد العرب في هذا الملتقى الدولي الوقوف عند معالم الحداثة في الأدب الجزائري . و ما لفت انتباهي في مداخلاتهم هو جهلهم لتاريخ الأدب الجزائري فعلى سبيل المثال لا الحصر . جاء في مداخلة: أن الرواية الجزائرية. بدأ التأريخ لها سنة 1971 أي مع ظهور النص الروائي ـ ريح الجنوب ـ للأديب عبد الحميد بن هدوقة ...و جاء في مداخلات أخرى ـ دائما في سياق التأريخ ـ أن الأدب الجزائري عرف التأسيس له مع كوكبة من المبدعين في نهاية الخمسنيات من القرن الماضي مع ـ طاهر وطار و جلالي خلاص و مرزاق بقطاش و رشيد بو جدرة و وسيني لعرج و محمد الزاوي ...الخ)) نعم هي حادثة موجعة ، أن يتم بتر تاريخ الأدب الجزائري بهذه العَلَنية التي هي من صُنعنا نحن ، وأن يتم نسف إبداعات كُـتَّاب شاء قدرهم أن يجيئوا إلى الدنيا في الزمن الفرنسي ، وأن يتعلموا في المدارس الفرنسية إبان ليل الاحتلال ، وأن تكون اللغة التي يتقنون هي لغة المستدمر الغاصب ، لكنهم مع ذلك امتلكوا شجاعة الكتابة بلغته ، وإدانته بلغته ، والثورة عليه بلغته .
نعم نحن من استأصل التاريخ ، وجذعه بوحشية التعصب الأعمى ، وبغباء لم تعرفه غيرنا من الشعوب ، لا يوجد شعب في العالم يتبرأ من تاريخه كما نفعل نحن ، حتى وصل الأمر بأشقائنا في مصر _مثلا _ أن يعيرونا بأننا بلا تاريخ ، وأنهم أهل حضارة عمرها سبعة آلاف سنة بينما نحن لم نظهر إلى الوجود إلا سنة 1962 .
أيهما إذن أخطأ في حق جزائريته : الذي تمسك بها وانتصر لها حتى في أحلك الظروف ( ليل الاحتلال ) وتغنى بتا عندما كان ذلك كفيلا بتكليفه حياته ، أم ذلك الذي يدعي أن تاريخ الجزائر لم يبدأ إلا حين جاء هو إلى الوجود ، ثم بدأ الكتابة والنشر ؟
( 4 ) - ماهي خطيئة مالك حداد؟
هل خطيئة مالك حداد هي أنه كان يكتب بالفرنسية ؟ ماذا لو علمنا أنه يسمى ( شهيد اللغة العربية )؟ فلقد آلمه أن يكون جزائريا ثم يكتب بلغة فرنسا ، اللغة التي لا يفهمها القارئ العربي ، لذلك قال ذات يوم أثناء محاضرة له بالفرنسية في دمشق عن الثورة الجزائرية التي كانت في عنفوانها :
" إن مأساتي تتجلى الآن بشكل أعمق . . إني أقف أمامكم؟ لا أعرف كيف نتفاهم! " وقد بلغ به الأمر أن قرّر ان يتوقف عن الكتابة مصرّحاً بجملته الشهيرة " اللغة الفرنسية منفاي، ولذا قررت أن أصمت" .
وهكذا مات مالك حداد بسرطان صمته، وحقَّ له أن يُعدَّ أول شهيد يموت عشقاً للغة العربية ، ولأن أحلام مستغانمي هي واحدة ممن يشهدون على هذه الحقيقة ، بادرت بعد أكثر من عقد على وفاته بإنشاء جائزة مالك حداد الأدبية ، تخليدا لذكرى الرجل و تكريما للغة التي أحب ، اللغة العربية ، تقول أحلام مستغانمي :
" يوم التقيته في السبعينات، عابراً في ذلك المقر، أذكر، كان أكبر حزناً من أن يكون في متناول فرحتي به، وكنتُ أنا أكثر خجلاً، وأقلّ خبرة من أرد على طلبه المتواضع بترجمة بعض قصائده للعربية ، التي كان يتمنّى أن يسمعها بصوتي في ذلك البرنامج الليلي الذي كنت أُقدّمه ، والذي كان يستمع له بشغف مَن يحبُّ موسيقى اللغة العربية التي حُرم من تعلُّمها. كنت بالنسبة إليه رمزاً للجزائر الفتية ، التي صمت ليستمع لصوتها العربي. "
( 5 ) – وآخرون ؟
مالك حداد هو واحد فقط من بين أسماء كثيرة أحبت وطنها كما تُحب الأوطان ، لكنها ما استطاعت أن تقول ذلك الحب إلا بلغة أجنبية ، أسماء مثل :
كاتب ياسين الذي قال :{{ لم يشجعني احد علي الكتابة إلا احتلال فرنسا للجزائر الذي جعلني أكون سياسيا في كل ما أكتبه وأقوله من النصوص النثرية وقصائد الشعر .. لقد ولدت ( نجمة ) من مجموعة إيحاءات وهواجس ورموز كنت ألملمها كل يوم علي مدي عشر سنوات ، أي منذ عام 1946 لتغدو رواية صدرت في باريس عام 1956 وأنا شاب جزائري في العشرينيات والثورة المسلحة قد اندلعت في كل البلاد ..}}
كما قال عن روايته الأشهر ( نجمة) : { هل ماتت روحها الجزائرية لأنني كتبتها بالفرنسية ؟ }
مولود فرعون صاحب ( الدروب الوعرة ) و( أشعار سي موحند) ، الذي قال : ( أكتب بالفرنسية ، وأتكلم بالفرنسية ، لأقول للفرنسيين ، أني لست فرنسيا) وهذه مقولة خارقة الذكاء والدلالة ، لرجل اختار أن يخاطب خصمه بلغته ليقول له:( لستُ منك ) هذا الكاتب الذي لم يمت في أحد مستشفيات فرنسا أو على رصيف باريسي ، بل مات في الجزائر برصاص الجيش السري الفرنسي في 15مارس 1962 ، بينما كان في مقر عمله ، فهل يصح بعد هذا أن نعتبر كتابته باللغة الفرنسية سببا كافيا لنزع الجنسية الجزائرية عن أدب هذا الرجل ؟
مولود معمري ،أو الدا المولود ، الذي قال في ( رسالة إلى فرنسي ) ، قال: { { الرجال الذين يزهرون في النظام الاستعماري هم المحتالون والمزورون والمارقون والمنتخبون المصطنعون، بلهاء القرية، الرديئون، الطامحون الخواة ، المطالبون بأكشاك التبغ، مخبرو الشرطة، القوادون البؤساء، القلوب البائسة. لا وجود في النظام الاستعماري لقديس ولا لبطل ولا حتى لموهبة متواضعة. لأن الاستعمار لا يحرر، بل يُكرِه، إنه لا يرفع، بل يقهر، لا يُمجِّد، بل يُيئس ويُعقم؛ إنه لا يسمح بالتواصل، بل يفرق ويعزل ويحبس كل إنسان في عزلة بلا أمل.
لقد ولـَّد الغزو الاستعماري شكلا خاصا من العلاقات بين البشر: الاحتقار، لا أعني الاحتقار الفردي الذي قد يكون مؤسسا (كاحتقار شخص حقير) ولكن الاحتقار الغبي لعرق كامل وشعب، الاحتقار الأعمى الحيواني. ولكن القوة والاحتقار؟ إسمنت هش جدا للذي يريد أن يبني حضارة ويريدها أن تدوم }} كما قال في نفس الرسالة {{ وعن فرنسا، كثير هنا كان لهم الضعف ( هل يمكن أن نقول هنا الحظ ؟) أن يحبوا بعض الأشياء والتي منذ أكثر من سنة تقتلها الأيام بصفة أكيدة وبشكل أعمق كل مرة. كل الكلمات التي وصلت حد الإهتراء عندكم والتي،أعرف ذلك عن تجربة، تثير على شفاهكم دوما ابتسامة ساخرة ومُشفِقة في نفس الوقت، جميع الكلمات التي تقرون منذ زمن طويل أنه ليس غير السُّذج من مازال يؤمن بها، وآمنا بها نحن بسذاجة: الأخوة، الإنسانية، التحرر، الأجمل بكثير من الحرية، التي أجرؤ على ذكرها بالكاد بدون خجل، ولكن ما عساي أن أفعل؟ كتّابكم وشعراؤكم وفلاسفتكم تكلموا عنها بالنبرة والبلاغة وحتى بالنغمات التي أحبها. إلى درجة أنني أغريت، بل أكثر من ذلك، بإغراء عنيد. لقد حدث الضرر. لا توجد سلطة في العالم يمكنها أن تجعلني مرة أخرى (وكثيرون معي ) إنسانيا، أخويا، ومتحررا الذي هو أجمل من حر، لأن هؤلاء الأموات نحن البعض، نحن الكثير، نحن كل الشعب الجزائري، وأنا متأكد أن جزءا مهما من شعب فرنسا لا نريد أن نتقبلهم}} لقد كتب هذه الرسالة إلى صديقه ( القاوري النزيه) الشاعر جان سيناك ، في 30 نوفمبر1956، فهل هذا الكلام جزائري الروح والجنسية ، أم أجنبي عنها ومنسلخ عن مباديء ثورتها الخالدة ؟
محمد ديب صاحب الثلاثية الخالدة : (الدار الكبيرة 1952-الحريق1954-النول1957) صاحب ( الحريق ) الرواية التي تنبأت بثورة التحرير الجزائرية ، والتي صدرت قبل ثلاثة أشهر من اندلاع هذه الثورة ، محمد ديب الذي قال ("إن أخيلتي وتصوراتي نابعة من اللغة العربية، فهي لغتي الأم، إلا أنها مع ذلك تعتبر موروثا ينتمي إلى العمق المشترك. أما اللغة الفرنسية فتعتبر لغة أجنبية مع أني تعلمت القراءة بواسطتها، وقد خلقت منها لغتي الكتابية". فهل تتبرأ منه الجنسية الجزائرية لمجرد أنه لم يستطع أن يحب وطنه بالعربية الفصحى ؟
هؤلاء وغيرهم كثيرون ، أحبوا أوطانهم وقالوا ذلك الحب باللغة التي يتقنون ، بالكتابة ، بالرسم ، بالتمثيل ، بالنحت أو الموسيقى ، وحتى بلغة الصم البُكم ، فالحب يبقى حبا مهما كانت اللغة ، وعندما يكون المحبوب هو الوطن تُصبح مسألة لغة الكاتب نكتة باردة حد الإيلام ، ذلك أن الكاتب ( خلافا لأي مواطن عادي ) هو أقدر الناس على إدراك ذلك الحبل المتين كالقدر ، الشفاف كسماء الربيع ، والذي يربط قلب الكاتب بتراب وطنه ويشده بإحكام ، الكاتب يحمل وطنه أينما ارتحل ، ويحبه بكل اللغات ، ويستميت في حبه دون أن يبالي كثيرا بالمزادات العلنية ، التي تُعامل الوطن كما لو كان شيئا قابلا للملكية وبالتالي للبيع .
( 6 ) وآخرون أيضا ...
ثم إذا كانت الكتابة بالفرنسية هي سبب إسقاط أسماء الكتاب الفرنكوفونيين من تاريخ الأدب الجزائري ، فما هو سبب تجاهل روايات كتاب جزائريين كتبوا بالعربية وجاؤوا قبل ريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقه ؟ مثل (حكاية العشاق في الحب والاشتياق ) التي صدرت سنة 1847 لصاحبها محمد بن ابراهيم ، والتي تُعتبر أول نص روائي عربي ، ثم ( غادة أم القرى ) لصاحبها أحمد رضا حوحو سنة 1947 { هذا بغض النظر عن المحاولات الموصوفة بتواضعها وسذاجتها وضعفها الفني كرواية ( الطالب المنكوب) لصاحبها عبد المجيد الشافعي ، الصادرة سنة 1951 كذلك رواية " الحريق " سنة 1957 لصاحبه نور الدين بوجدرة ، ثم رواية " صوت الغرام " سنة 1967 لمحمد منيع } هذا عن الرواية ، فما بالك لو تحدثنا عن الشعر والمقال السياسي والديني والاجتماعي ، وكل تلك الأقلام الجزائرية القحة : من الأمير عبد القادر الجزائري ، إلى أحمد رضا حوحو ، مالك بن نبي ، الشيخ أحمد توفيق المدني ، الشيخ محمد البشير الابراهيمي ، الإمام عبد الحميد بن باديس ...الخ ، لكن مادام الأستاذ جمال غلاب أعطى مثالا بالرواية فقط ،فقد تجاوزت التدقيق والتحقيق في غيرها من وجوه وأشكال الأدب الحديث .
( 7 ) - جنسية اللغة...جنسية الأدب ؟
الحديث عن جنسية اللغة هو تشويه لروح الإبداع ، هو مسخٌ له ، لأن اللغة هي مجرد وعاء : ولا أتصور مثلا أن طعم العسل الحر الموضوع في إناء أسطواني الشكل ، يختلف عن طعمه إذا وضعناه في إناء مكعب الشكل ، لذلك أعتقد أنه مهما كانت اللغة التي كُتب بها يظل الإبداع إبداعا بذاته ، بما يحمله من فكر ، وما يبرزه من معان ِ ، وما ينتصر له من قيم ٍ ومباديء ، ويبقى الأدب أسمى وأوسع من أن يُحبس في قوالب إقليمية ، عنصرية ، تحُط من قيمته كسمة إنسانية عالمية ، لا تعترف بالحدود ، والفوارق .
الأدب الجزائري ، الأدب اللاتيني ، الأدب العربي ، الأدب الأمريكي ، الروسي ...الخ كلها تسميات تتناقض مع أهم أسباب وجود الأدب ، التي هي التواصل مع الآخر البعيد ، ليس الآخر الذي بإمكاننا رؤيته يوميا ومخاطبته يوميا ، بل ذلك الآخر البعيد ، الذي يُقاسمنا الهم والإحساس ، حتى لو جاء في زمن آخر ، ذلك الذي لا نعرفه لكننا واثقون أنه يُشبهنا ، الآخر الذي نكتب له بلغة واحدة لكننا واثقون أنه سيفهمنا بكل اللغات .
( 8 ) – تأريخ ؟ لابأس بالتأريخ ، لكن !!
إذا كان التأريخ للأدب يقتضي إحداث تقسيم ما فليكن ، لكن طبيعة عملية التأريخ نفسها تتناقض مع التقسيم الأفقي للموضوع المؤرخ له ، أي أن تأريخ شيء هو تسجيلٌ متسلسل لكافة مراحل وجوده ، وينبغي الغوص بشكل عمودي في ماضي هذا الموضوع وجذوره العميقة ، والتنقل بشكل تصاعدي حتى بلوغ حاضره ، دون إغفال أية فترة ولو كانت سوداء من وجهة نظرنا ، ودون إقصاء أشخاص ولو خالفونا الرأي والقناعات ، ودون استئصال أي جزء ولو بدا لنا غير منسجم ، ومن هنا أتساءل : ماهي الحكمة العظيمة من إهمال كل تلك الفترات من عمر الأدب الجزائري ، والابتداء أثناء التأريخ له من أواسط القرن العشرين ؟ مهما كانت هذه الحكمة فهي في نظري : عوراء ، حتى لا أقول : عمياء...



نشر في الموقع بتاريخ : السبت 3 ربيع الثاني 1433هـ الموافق لـ : 2012-02-25 













التعليقات


جمال غلاب

بعد السلام و الاحترام و التحية و الإكرام الأخت رتيبة أما بعد :

في البدء أنبهك الى تجاوزك لحدود اللباقة..لأن الكلام السوقي لا يجدي نفعا و لا يرفع من همة المثقف ـ لمن تقرأ زبورك يا جمال غلاب ـ فمن منطلق التعامل بالفكر و مصارعة الفكرة بالفكرةو هذا لا يعني التجريح و القذف بحكم أن غاية النقاش هو اثراء النص و متى تقيدنا بمثل هذه الضوابط في أدبياتنا من المؤكد سنهتدي الى جادة الصواب .

و أعود الى نقاشك :

و أما إعتذارك بالنيابة تبعا لقولك ـ وأعتذر له نيابة عن كل الذين صمتوا ، جهلا أو تجاهلا ، أو يأسا من واقع يبرك على صدورهم كاللعنة المؤبدة ، وأعتذر للحرف الذي يحاول الجهل ردمه تحت ركام العُقد ، وأنقاض الجاهلية ، وتحت طبقات من الظلمة والظلم .ففي حدود تقدير لا أحد أهلك لكي تنوبين عنه و تحديدا في مجال النقاش .و الدليل موقع أصوات الشمال يرحب بكل من له القدرة على الكتابة .




و الحق أن طرحك حفل بالكثير من المآخذ : و المأخذ الأول أنك لم تقرئي مقالي قراءة صامتة و متأنية فلو عملت بهذه النصيحة كنت تستطعين التفربق بين التأريخ و التاريخ و هناك فرق بين التأريخ و التاريخ ؟ و نعني بالتأريخ هو جمع المادة مرفوقة بالحيزات الزمانية و المكانية و بمعنى أدق و أوضح الاستاذة المحاصرة من الكويت أرخت للنص الروائي الجزائري منذ سنة 1971 غادة ظهور نص ريح الجنوب ـ و أنا بدوري أرخت للنص الروائي الجزائري انطلاقا من الاقامة الابداعية سنة 1948 و تركت المجال مفتوحا ...و جئت أنت و أرخت له من العهد اليوناني مع ظهور رواية الحمار الذهبي ...و هنا أفتح قوسا لأذكرك بأنه باستثناء مقدمة مقالك فان كل ما تطرقت اليه من شرح و تحليل و تعليل و استنتاج و استنباط تستحقين عليه الشكر و الثناء ....و اعتبره امتدادا لمقالي .و أما التاريخ هذا الأمر يتجاوزنا و من مهمة المؤرخين ؟




المأخذ الثاني : أنا لم أرفض الابداع المكتوب بالفرنسية بالعكس أنا كنت في مقالي من المدافعين عنه بدليل أنني استشهدت باجتماع السرياليين في باريس و كيف انهم ناقشوا هذا المذهب و عند عودتهم الى بلدانهم كل فرقة حررت البيان بلغتها ؟ و أوضحت أن الأدب في منختلف الأجناس الأدبية ـ قصة , رواية , شعر ..ـ هو خامات اجتماعية تتدخل فيها الموهبة لاعادة صياغتها فنيا.و هذا هو الأدب .




مودتي





رتيبة بودلال

الكاتب الصحفي ، الأستاذ جمال غلاب: لو تأنَّيتَ قليلا ، لعرفت أن الزبور هو الكتاب الذي أنزله الله على سيدنا داود عليه السلام ،ومعنى القول الشهير: لمن تقرأ زبورك يا داوود؟ هو أنه:يا داوود ، أنت تقرأ الكلام المقدس لأناس لا يفقهونه ، لذلك فعندما نتكلم ولا نجد أي اهتمام أو فهم من الذي نوجه له الكلام،نستشهد بهذا القول الشهير ، لنذكِّر أنفسنا أننا في واد ، ومن نكلمه في وادٍ آخر .

وبناءًا على هذا يتضح أنني حينما قلت ( لمن تقرأ زبورك يا جمال غلاب ؟ ) كنتُ في موضع الثناء على مقالك ، والدفاع عنه ، واستنكار عدم تجاوب الآخرين معه ، لهذا أستغرب قولك ( أنبهك الى تجاوزك لحدود اللباقة..لأن الكلام السوقي لا يجدي نفعا و لا يرفع من همة المثقف )

على كل حال : لقد تسرعتَ في رد فعلك ، لكنك بهذا جعلتني أكتشف السبب الحقيقي وراء عزوف غيري عن مناقشتك ، لأنك وكما جاء في تعليقك تُحبِّذ أن يكون تجاوب الآخرين مع مقالاتك (قراءة صامتة و متأنية) ، وجعلتني أكتشف السبب الحقيقي في لُجوء الكثيرين إلى أحد خيارين : الصمت أو المُجاملة .

شكرا ...








جمال غلاب

أختي رتيبة سلام الله عليك




أنا يا أختي العزيزة لست بنبي و لا رسول ولا يمكن أن أتساوى مع الأنبياء و المرسلين ...أنا من عامة الناس ولا يمكن أن أغتر و لا اسمح لنفسي بذلك ثم أن هجومك على المبدعين و الأدباء تقززت منه و هذا كل شيء و كل ما اتناه أن لا اكون سببا في عزوفك على الدخول حلبة النقاش ....و ما جرى بيننا لا يفسد للود قضية و ما أضيفه ليس مجاملة لك لأن المجاملة لا ترق اليك فأنت مثقفة و متطلعة و كتاباتك تروقني و قد استفدت منك كثيرا بدليل أنني بصدد اعداد ملف حول الرواية.....فأهلا بك في أي وقت و تبقين قارة على قلبي محبتي اختي رتيبة العالية 





رتيبة بودلال

أخي جمال غلاب : مرحبا بك .

طبعا لم أعتبرك نبيا ولا رسولا ، وأنت تعلم ذلك ، وأنا أتفهَّم جيدا أن العنوان بدا لك مستفزا ، فأغضبك إلى درجة التعليق بسرعة ، و هذا ما جعلك تُعبر عن نفسك ( لي على الأقل) تعبيرا خاطئا ، إذ بدوتَ لي : عصبيا، وسريع الغضب ، وأنه من الأحسن تفاديك في حلبة النقاش ، لأن النقاش في نظري هو حوارٌ هاديء ، قوامه العقل والموضوعية ، و لغته الحجة والبرهان ، وسُوسَتُهُ التي قد تنخره حد الهشاشة : الغضب والتعصب ، والذاتية ، وبما أنني حين أتناقش أبحث عن فهم الآخر والتفاهم معه = أبحث عن السلام ، فيُستحسن الانسحاب من المناقشات التي تنسف هذا السلام ، و تجعل مُحاوري يتهمني بالسوقية وبتجاوز حدود اللباقة ، ويُطالبني بالصمت = السلبية = الموت.

لكنني مازلتُ أتفهم غضبتك تلك ، وأملك سعة الصدر الكافية لتجاوزها إلى الحوار البناء ، خاصة بعد قراءتي لتعليقك الثاني ، فأنا أعتبر الإيجابيات الواردة فيه مكسبا ثمينا ، يُستحسن المحافظة عليه ، وفي سبيل ذلك أتجاهل أي شيء سلبي آخر .

سأنتظر ملفك عن الرواية بصبر نافذ ، و يسعدني كثيرا هذا التفاعل الإيجابي ، تحيتي وسلامي .





رتيبة بودلال

أخي جمال ، نسيتُ أن أسألك : ماذا تقصد ب( هجومك على المبدعين ) فأنا لم أهجم على أحد ، أنا أتناقش وأستمع لكل من يناقشني ، الهجوم كلمة كبيرة جدا ، ماذا تقصد ؟





جمال غلاب

صباح الورد أختي الغالية رتيبة




أنا من البداية أختي العزيزة صرحت لك بأن ما حدث بيننا من تفاعل لا يفسد للود قضية و لأنني على اطلاع بقدراتك و سعة اطلاعك فلهذا السبب و فقط دخلت معك في نقاش وأنا سعيد بهذا النقاش المثمر بدليل ما تضمنه مقالك من نبش في الرواية الجزائرية ا عرى بعض المشتغلين في مجالها ...حيث انقسم هؤلاء الى فرق و بدل انتصارهم الى التعريف الحقيقي بالتسلسل الزمني لها ...ركنوا الى الترويج لأسمائهم على حساب الابداع الجزائري ...و أعيد و أكرر أن ما تضمنه مقالك من معلومات قيمة اضافة الى الجهد الذي سابذله سيجعل من جهدينا مرجعا للرواية الجزائرية و اليك العنوان : ملف الرواية الجزائرية من اعداد رتيبة بودلال و جمال غلاب ـ و بخصوص سؤالك ؟ و عملا بنصيحتك و حتى يبقى هذا الود مكسبا قصد تجسيد النقاش الهادئ و المفيد من المستحن عدم الاجابة عليه علنيا و أحبذ أن يكون مجرد حديث جانبي بيني و بينك و اترك لك عنواني الإلكتروني للتواصل

ghellabdjamel@yahoo.fr............و محبتي لك قد سما

عن نوال السعداوي ..

قلم : رتيبة بودلال
الحديث عن نوال السعداوي في زمن فتوى إرضاع الكبير، يشبه الركض في حقل مزروع بالألغام ، إذ لا يمكن لعلماء فتوى إرضاع الكبير، وزواج المسيار ، وترقيع البكارة أن يسكتوا على أية محاولة لإماطة اللثام عن وجه الحقيقة المغيبة : حقيقة أن ارتداء جلباب أو اعتمار عمامة ليس دائما دليلا على التقوى والورع وأنها في كثير من الأحيان مجرد قشرة تخفي تحتها نفسا خاوية من الإيمان ، ينخرها سوس الغرور الذي يصور لصاحبه أنه قد بلغ من الحصانة الدينية ما ينزهه عن الحساب والعقاب

أولا :هكذا عرفتها :
الحديث عن نوال السعداوي في زمن فتوى إرضاع الكبير، يشبه الركض في حقل مزروع بالألغام ، إذ لا يمكن لعلماء فتوى إرضاع الكبير، وزواج المسيار ، وترقيع البكارة أن يسكتوا على أية محاولة لإماطة اللثام عن وجه الحقيقة المغيبة : حقيقة أن ارتداء جلباب أو اعتمار عمامة ليس دائما دليلا على التقوى والورع وأنها في كثير من الأحيان مجرد قشرة تخفي تحتها نفسا خاوية من الإيمان ، ينخرها سوس الغرور الذي يصور لصاحبه أنه قد بلغ من الحصانة الدينية ما ينزهه عن الحساب والعقاب .
نعم يتشعب الموضوع ويتفرع عندما يتعلق الأمر بالدين أو بالمرأة فما بالك والأمر يتعلق بكليهما؟ امرأة تفهم دينها بما يتيحه لها عقلها وثقافتها وتربيتها على يد رجل دين ، وليس كما تشكله قوالب الفكر الجاهز الجامد المتعصب ، وترفض أن تقوم بدور الدمية التي تتقلب بين أحضان الرجال ، أو الأَمَة التي تدوس عليها أقدام الرجال ، بل تصر على أن تكون إنسانا كامل الكرامة والإحترام .
نعم ترفض نوال السعداوي التبرج ( ولا أقصد السفور ) وتكديس كيلوغرامات المساحيق على وجهها ، والتحول بذلك إلى مجرد رمز جنسي يسيل له لعاب الذكور ، لأنها تعتبر ذلك مُهينا للمرأة التي كرمها الله منذ لحظة ولادتها حتى بلوغها وزواجها من رجل ترضاه ، ثم تربُّعها على عرش الأمومة ( الجنة تحت أقدام الأمهات ) .
وترفض نوال السعداوي أن تكون مجرد أمة تعمل بكد العبيد في الليل و النهار لتتحول في الفراش إلى جثة ، عفوا ، إلى جسد نابض بالقدرة على الإمتاع و الإشباع ، ترفض ذلك وتتبرّأ من أية امرأة تكتفي بهذا الدور الذي يقزِّمها ويلغي مساحات شاسعة من آدميتها .
ثانيا :هل هي حقا ضد الدين الإسلامي ؟
و إيمانا من الدكتورة نوال السعداوي بآدمية المرأة ونديتها للرجل كإنسان كامل الحقوق والكرامة ، جديرا بالتكليف والحساب ، بالعقاب والثواب ، وحرصا منها على التحرر من قالب الأنثى / الجسد ، أصرّت على الظهور بلا ماكياج ، ولا صبغة شعر ، ولا أية بهارات لأنوثتها ، ولم تخجل من بياض شعرها ولا من تجاعيد وجهها لأنها تدرك أن قيمة الإنسان تكمن في جوهره ودرجة وعيه وإدراكه ، وليس في قشرته الخارجية التي يمكن أن تكون مجرد قناع زائف ، لقد فضلت أن تكون إنسانا وليس مجرد متاع لإنسان آخر يضع نفسه في مرتبة أعلى لمجرد أنه ذكر ، واقتنعت أن المكان الوحيد الذي ينبغي للمرأة أن تكون فيه كاملة الأنوثة هو مخدع الزوجية ، أما ما عدا ذلك من الأماكن فينبغي أن تتصرف فيه المرأة بوقار ورزانة ، وأن تكون إنسانا فقط ، أي أن تكون غير مثيرة ولا مغرية للرجال الآخرين ، ولو تأملنا قليلا لوجدنا أنها تتفق في ذلك تماما مع مقاصد الشريعة الإسلامية من تشريعها للمرأة لباسا يصونها من الظهور بمظهر الغواية والإثارة ، وهنا يفرض علينا السؤال نفسه : ألا يكون مظهر الدكتورة نوال السعداوي الوقور ، البعيد تماما عن الإثارة والإغراء ، أشرف عند الله من مظاهر بعض المتحجبات بملابس تشف وتكشف وتصف أدق تضاريس الأنوثة ، المتمكيجات الكاشفات لغرة شعر مصبوغة ، مكوية ومصففة بطريقة تقطر إغراءا وإثارة ؟
لقد ثارت نوال السعداوي ليس على دين الله وأحكامه العبقرية العادلة الصالحة لكل زمان ومكان ، ولكن على الفهم الخاطىء لهذا الدين ، والتطبيق الأعوج لأحكامه والتأويل المصلحي لتشريعاته ، وعدم الأخذ بجواهر الأمور والإكتفاء بظواهرها التي غالبا ما تناقض الصواب ، لم تثر ضد الحجاب المعنوي الذي يعني حجب أسباب الإثارة الجنسية لجسد المرأة عن عيون الرجال ، لكنها ثارت ضد المرأة التي ترتدي الزي الإسلامي وتتصرف بإباحية أخلاقية وميوعة ورعونة ، لقد قالت الدكتورة نوال السعداوي في تصريح لإحدى صحف بلدها:
( أخلاق المرأة في سلوكها ومشيتها وكلامها وشكلها وليس غطاء شعرها. في بلادنا هناك حاليا مزيج بين الأسلمة والأمركة، أي أن تغطي البنت شعرها وتعري بطنها، فترتدي البنطلون "الجينز" حسب الموضة الأمريكية والسوق الحرة والاستهلاك، وتغطي شعرها ارضاء للإخوان المسلمين. هذا هو نموذج المرأة والفتاة المصرية الآن.
كما قالت : قانون الزواج في بلدنا ليس عادلا. فكيف يسمح أن ينتقل الرجل من فراش امرأة إلى أخرى تحت رخصة التعدد، أو أن يخون امرأته فإذا تم ضبطه مع عشيقته يتزوجها حتى تسقط التهمة لأن من حقه تعدد الزوجات. هل هذه أخلاق؟.. إنه افساد لاخلاق الرجال والازواج ومن هنا فالأسرة في مصر تعيسة. انا أكلمك كطبيبة نفسية. لا تستطيع أن تتصور الزوجات المقهورات بسبب الحرية الجنسية للرجال تحت اسم الشريعة. الرجال يستخدمون رخصة "تعدد الزوجات" لخيانة زوجاتهم. فالرجل وهو في الثمانين يمشي مع امرأة في الثلاثين والعشرين ويترك امرأته وأولاده ولا نستطيع محاكمته.
وقالت نوال السعداوي: عندنا مليونا طفل غير شرعي في مصر بسبب الفساد الاخلاقي للرجال في مجتمعات ماتت ضمائرها. انا ضد الحرية الجنسية للرجال والنساء. "جنس إيه وزفت إيه". كل عقولنا في الجنس. رأيي أن عقل الامة العربية في الجنس لانها محرومة جنسيا، وهذا الفساد الاخلاقي يأتي من الحرمان.

أضافت: أنا "قرفت" من هذا الجو الجنسي فكلنا نتكلم عن الجنس. نحن نعيش في جو وانفلات جنسي للرجال تحت اسم الشريعة والتعدد. إذا قلت لا.. يقولون هل تريدين حرية للنساء؟. مثلا اتهموني بأنني أريد تعدد ازواج.. ما معنى هذا؟.. على العكس أنا احيي النساء اللاتي لا يتزوجن مطلقا. المرأة "زهقانة" من زوج واحد فلماذا تسعى لتعدد الأزواج؟

وأكدت السعداوي أنه لا يوجد انفلات جنسي عند النساء العربيات.. فأين الانفلات وهي مقهورة؟.. إن قيودا من حديد مفروضة عليها. الحرية هي المسؤولية، فعندما تعمل عقد زواج فهذا يعني انك مسؤول وعندما تعمل علاقة جنسية مع امرأة فأنت مسؤول أيضا ولا يجب أن تفر هاربا.

واستطردتْ: نريد ان نعيد الاخلاق الحقيقية للرجل العربي ويكون مسؤولا عن افعاله الجنسية كما هو مسؤول عن جميع افعاله السياسية والاقتصادية )(1)
هذه مجموعة من الآراء التي عبرت عنها الدكتورة في سياق حوار أجري معها وأسئلة صحفية وجهت لها ، وهي كلها تتماشى مع ما يدعو إليه الإسلام من حفظ للفرج وغض للبصر وتعفف وابتعاد عن الزنا ، وإن بدت بعض تعابيرها متطرفة فهذا ليس كفرا ولا إلحادا بل هي مبالغة جائزة في عرفنا اللفظي ، لكنها عندما تصدر عن شخصية مثيرة للجدل نضعها تحت مجهر عملاق ونكبرها بلايين المرات لنستشهد بها عندما نحكم عليها بالتكفير والإلحاد ، ثم إن الكثير ممن لديهم حكما مسبقا عنها لا يجتهدون في فهم كلامها بل إنهم يكتفون بالمعنى السطحي وغالبا بنصف الاية ، مثلا :
( تقول ( أنا أحيي النساء اللاتي لا يتزوجن مطلقا ) لايمكن أن يكون قصدها هو نسف مؤسسة الزواج التي شرعها الله لعباده ، وهي التي تزوجت أكثر من مرة ، بل إن المتمعن لسياق حديثها يفهم أنها كانت ترد على من اتهموها زورا وبهتانا بالدعوة لتعدد الأزواج ، وأنها تقصد أن الزواج بشكله السائد ( وليس بالشكل المفروض شرعا ) وجوده أسوأ من عدمه ، وأن المرأة التي تزهد فيه أحسن من التي تقدم عليه ، وأن التي تتزوج مرة - بهذا الشكل – تصاب بالتخمة ولا يمكن أن تفكر في تعدد الأزواج )
إذن نوال السعداوي لاتهاجم الدين الإسلامي لكنها ثائرة ضد من يتخذونه مطية لإرضاء أهوائهم وتحقيق مآربهم ، ضد من يكتفون بالمعنى الحرفي للكلام دون أن يعقلوه
ثالثا :(فتَبيّنُوا أن تُصيبوا قَومًًا بِجَهالةٍ ) صدق الله العظيم :
ليس من الحكمة ولا من الإنصاف أن نصدق كل ما يروج عن هذه المرأة الحصيفة ، التي لا تخاف في الحق لوما ولا تهديدا ، لأن من يخالفونها الرأي يفتقرون إلى القدرة على مناطحة الحجة بالحجة تدمغها ، على مساجلة الفكرة بالفكرة تفحمها ، لذلك يلجأون إلى التهم الجاهزة ، المُبهَّـرة بمفردات بعينها : الكفر..الإلحاد..الزندقة.. وطبعا ما أسرع ما تستشري النار ، ويُوصَم المتهم بالجريمة قبل حتى أن يُحاكم ، خاصة أننا نحن شعوب البلدان المتخلفة عندنا المتهم مدان حتى لو تبثت براءته ، فمثلا قبل سنوات كانت إحدى زميلات العمل ( أستاذه ) تتحدث بافتخار عن مشاركتها في شتم الدكتورة نوال السعداوي وطردها من الحرم الجامعي ، بعدما جاءت لإلقاء محاضرة ، كانت تصفها بألقاب مهينة وتنعتها بأقبح النعوت ، فسألتها : ( هل قرأت ِ لها شيئا ؟ ) ثارت المرأة في وجهي مستنكرة أن تكون تقبل القراءة لِمُلحدة وكافرة وصاحبة الدعوة لتعدد الأزواج ، ثم همست لي ( هل تعلمين أنها لا تخجل من التصريح أنها ملت من الجنس ...؟) قهقهتْ طويلا قبل أن تضيف بلهجة ماكرة (...طبعا لكثرة ممارسته !!) فأجبتها ( أنصحك بالقراءة لها ..على الأقل حتى تتمكني من مناقشتها في المرة القادمة ) وبعد أشهر حلت نهاية السنة الدراسية فضبطتُ هذه الزميلة متلبسة بجريمة تزوير كشف نقاط أحد تلاميذي ، لأنه قريبها ، وبالضبط زوَّرتْ له نقطة الرياضيات وهي مادة تدريسي لأن معاملها كبير ، نظرت إلى خمارها المتدلي حتى ركبتيها وإلى جواربها السوداء السميكة – وكنا في شهر جوان – ثم قلت لها ( كثـَّر الله من أمثال نوال السعداوي فهي على الأقل لا تزوِّر شيئا ، لا كشوف نقاط التلاميذ ، ولا أفكارها ، ولا لون شعرها ....) فأي المرأتين أقرب إلى الإسلام إذن ؟
و قٌرأت مرة مقالا بعنوان ( نوال السعداوي في مواجهة دين الله ) بقلم أحد خصومها، وكم اندهشت عندما قرأت هذه الفقرة ( وأتمنى من العلمانيين (بفتح العين) أن يفتحوا أعينهم ويعملوا عقولهم في البيئة العربية المحيطة بهم ليعلموا أنه لا مكان لأفكارهم في بيئة تجذر الدين في طبقات أرضها ، واختلط بمائها وهوائها ، ونبت مع نباتها ، واندمج في جيناتها , حتى أننا نرى المخمور في الخمارة يضرب المخمور زميله الذي يهذي بسب الدين ويقول له بعد أن يضربه بالزجاجة فوق رأسه كيف تسب الدين يا عديم الأدب ؟!) (2) كأن كاتب المقال لا يدري أن شرب الخمر من الكبائر ؟ كأنه يعتبر مثل هذا المشهد هو مفخرة لدين الله ، هل هذا هو الإسلام ؟ خمر وهذيان بسب الدين ، مخمور ينهى مخمورا آخر عن سب الدين ، ولا يهم بعدها إن كانا سيترافقان إلى نفس دار البغاء ، للتناوب على نفس المومس ، طبعا هذا هو المجتمع المتدين الذي يشيد به خصوم الدكتورة السعداوي ، وهذا هو المشهد الذي يرعاه هؤلاء ويحرصون على استمراره ، حتى لا تجيء الصحوة ويجرفهم سيلها .
و قرأت مؤخرا في أصوات الشمال مقالا للأستاذ رابح خيدوسي ، فسجلت بعض الملاحظات :
الأولى : عندما تحدث عن أول مرة رأى فيها الدكتورة ، وكيف بدت له في البداية مجرد شخص تائه ، بشعر أشيب أشعث ، يسير في خط مستقيم ، استغربت كثيرا من حكمه على شخص يسير في خط مستقيم بأنه شخص تائه ، وأعجبت بالدكتورة التي تسير على خط مستقيم لأنها تعرف أن أقصر مسافة بين نقطتين هي الخط المستقيم ، خاصة أن تلك المساحات لم تُـزرع بعد ، ومع ذلك سماها الأستاذ خيدوسي لاحقا المساحات الخضراء ليبين لنا أن الدكتورة بسيرها على تلك المساحات تكون إما متمردة وإما متشردة .
الثانية : اعتبر الأستاذ خيدوسي أن الدكتورة نوال السعداوي قد نسيت أنوثتها ومتطلباتها الطبيعية والمكتسبة !! لمجرد أنها لم تتعروس على الملأ ، من قال أن الأنوثة هي المرادف الحقيقي للتبرج والتمكيج والإفراط في التزين ؟ الأنوثة كنز ويحق لصاحبة الكنز ذاك أن تحتفظ به لشريكها في مؤسسة الزواج و أن تجعله ملكية خاصة له وليس ملكية عامة ، وأنا أعتبر مظهر الدكتورة نوال السعداوي دليلا على ترفعها عن المنزلة المهينة التي تنزلها الكثير من النساء ، حتى صارت الواحدة منهن تنفق ثروات من أجل عملية شفط أو شد أو نفخ أو تعديل ، بل وأصبحت الأنوثة ديكورا مكملا لمختلف السلع التجارية ، ألا يُروَّج للكثير منها بإلصاق صورة أنثى بشرية على غلافها الخارجي ؟
الثالثة : في قراءته لروايتها ( امرأة في نقطة الصفر ) اعتبر الأستاذ خيدوسي أن نوال السعداوي تدافع عن مومس وتنتصر للرذيلة وتدعو النساء العربيات إلى الانحراف ، ( سيما وأن المرأة العربية تعاني من قلة النضج الفكري ، ولو بلغت في بعض الأحيان درجات علمية أو سياسية كالدكتورة والوزيرة )(3) وصعقني أن يكون الأستاذ خيدوسي قد اكتفى بالفهم السطحي المستعجل لهذه القصة أو الرواية ، وأن يكون قد غفل على حقيقة أن تقديم الدكتورة نوال السعداوي لشخصية فردوس لم يكن للإقتداء ، لكنه كان عملية تشريح لحالة من الواقع ، وتعرية جريئة لمشهد مؤسف موجود بالفعل في الواقع وليس شطحة من خيال الكاتبة ، ما أرادت الكاتبة قوله هو أن : فردوس لم تكن مومسا بالفطرة ، ولم تكن لها نية ذلك منذ البداية وإلاّ لكانت قد انحرفت بمجرد وفاة والديها وتحررها من رقابتهما ، لكنها على العكس انتقلت للعيش في بيت عمها الأزهري ، وتفوقت في الدراسة وكانت لتبلغ مكانة علمية محترمة لولا ظلم زوجة العم التي أرغمتها على الزواج وترك الدراسة ، والتي تبرز هنا كنموذج عن المرأة السلبية التي تحرص على أن تذيق أية امرأة غيرها من نفس كأسها المر ، ولولا سلبية العم الأزهري الذي يجسد نموذج رجل الدين المزيف الذي :
1 – لايختلف عن غيره من الرجال القساة الذين يضربون زوجاتهم .
2 – يوظف الدين لتبرير ضربه لزوجته بلا سبب واضح ، رغم قول الله سبحانه وتعالى في الآية 34 من سورة النساء: ( واللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ) ورغم قول رسوله الكريم –صلى الله عليه وسلم - : (لاَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا في آخِرِ الْيَوْمِ )) .
3 – يسكت عن ظلم زوجته و ضغطها على ابنة أخيه لتتزوج من لا ترضاه ، أي أنه وهو رجل دين لم يُصلح زوجته ولم ينهَها عن الظلم .
4 – لم يُحسن كفالة اليتيم ، بل ساهم في دفع ابنة أخيه اليتيمة إلى الإنحراف مرتين : مرة بعدم إحسانه تربيتها ومرة بإرغامها على الزواج ممن رفضته لكبر سنه .
إذن ماذا يُتوقع من فردوس التي بدأت قلعة القيم تتهاوى من حولها لتتركها في الخلاء بلا حماية ؟ وهذا طبعا من وجهة نظر الكاتبة التي توغلت في أعماق فردوس مستعملة كل أدوات علم النفس الذي درسته ودرّسته ، ومارسته ، لتتدرج في وصف التطور السلبي الذي انساقت فيه فردوس ، والحفرة التي هوت في قعرها ، رغم محاولة فردوس تصوير ذلك بأنه تطور إيجابي ، في إصرار لاشعوري لتبرير انحرافها وامتهانها لبيع لحمها الرخيص ، أقول لاشعوريا وأقصد ذلك وأصر عليه ، لأن المخطىء لا يرتكب خطأه وهو يراه خطأ ، بل إنه يفعل في لحظة يكون مقتنعا فيها أن ما يفعله هو الصواب ، عندما يزين له الشيطان الرذيلة ويصبغها بلون الفضيلة ، والدليل على ذلك هو ترديدها المتكرر لجمل تُثني فيها على ما وصلت إليه من استنتاجات واكتشافات ، مثل قولها:
(وأدركت أنني تخلصت من آخر قطرة من القدسية في دمي ، وأصبح عقلي واعيا بالحقيقة ، حقيقة أنني أفضل أن أكون مومسا عن أن أكون قديسة مخدوعة ) (4)
وقولها :( إن حياة المرأة سيئة في جميع الأحوال ، لكن حياة المومس أقل سوءا ، وقد أقنعت نفسي بأنني اخترتها ) (5) وكذلك :
( إلا أن أقل النساء انخداعا هن المومسات ، ومن أجل الزواج والحب تنال المرأة عقابا أشد ) (6)
هذه الأفكار والقناعات لدى فردوس هي نتاج تربية خاطئة وقدوة سيئة ، هي التي تقول :
( أنتمي إلى الطبقة السفلى بمولدي من أب فقير ، فلاح ، لم يقرأ ولم يكتب ، يبيع ابنته العذراء قبل أن تبور ، يسرق زراعة جاره ..ويضرب زوجته كل ليلة حتى تعض الأرض..وصباح كل جمعة يرتدي جلبابا نظيفا ويذهب ليصلي الجمعة في الجامع ).(7)
ما أرادت الكتورة نوال السعداوي قوله هو : أن مظاهر التدين الزائفة ، المناقضة للتصرفات الواقعية للرجال قد انعكست على تربية البنت ، التي تظافرت على تحويلها إلى مومس عدة تجارب وخبرات وعقد نفسية كلها من صنع المجتمع الذكوري الذي تقلّد منصب القوامة باسم الدين لكنه أساء التصرف فكيَّـفه وفق أهوائه ومصالحه الوضيعة المتمثلة في ترويض الأنثى و إخضاعها لقبضته المُحكمة ، ولأن الضغط يولد الانفجار فقد تحولت هذه الأنثى من قطة أليفة إلى لبؤة متوحشة ، وخاصة عندما اكتشفت أن الرجال يركلون القطط الأليفة ويتحولون إلى أرانب في حضرة اللبؤات .
الرابعة : في الفقرة المعنونة ب ( تعليق بالمناسبة ) أورد الأستاذ خيدوسي حادثة وقعت له وعايشها بنفسه ، تؤكد كل كلمة جاءت في رواية االدكتورة نوال السعداوي حتى كدتُ أقسم أن تلك القرية هي بلدة فردوس بطلة الرواية ، وختمها بأنه يتفق مع الدكتورة في أن ( نفاق بعض المتكلمين باسم الدين أشد ضررا من أعداء الملة )(8) مما أوقعني في حيرة ، فالأستاذ أخيرا يوافق ، ولم يدرك منذ البداية أن الدكتورة لم تفعل سوى كشف هؤلاء المنافقين المتاجرين باسم الدين ، الذين يبخلون عن حليلاتهم بأموالهم ومودتهم وولههم بل وحتى بابتساماتهم ليبذلوا كل ذلك بسخاء عند أقدام فردوس ، فما الذي يمنع زوجاتهم إذن من الإقتداء بهذه المرأة التي يسجدون لها ؟ على الأقل لتظفر الواحدة منهم ببعض ما يجود زوجها ؟ ومادامت فردوس ومثيلاتها آلهة يعبدها الرجال فالجار أولى بالشفعة !!
إن قوامة الرجل مسؤولية وإساءة استخدامه لها جريمة ، والضحية في النهاية هي المرأة : لقد حكم على فردوس بالإعدام لأنها تطورت وفق المعادلة :
( الذكر يضرب ويتحكم إذن الجريمة صفة ذكورية + الذكورة إمتياز = للحصول على الإمتياز يجب ارتكاب الجريمة.)
فمن المسؤول عن جريمتها إذن ؟ ألا يحق لنا أن نقول : جعلوها مجرمة ؟ هل الجريمة مسؤولية الشخص الذي ارتكبها أم هي مسؤولية المجتمع الذي تواطأ على تحويل هذا الفرد من إنسان ودود إلى مجرم متوحش ؟ هذه هي الأسئلة التي أرادت الدكتورة إثارتها ، وليس تشجيع النساء على الانحراف والعهر ، خاصة أنها نقلت لنا قصة وقعت وتقع كل يوم وستظل تقع مادام الرجال يركلون القطط الأليفة ويتحولون أرانبا في حضرة اللبؤات ، لقد أرادت القول أن ( العنف وسوء الفهم للدين لا ينتجان سوى الخراب والفساد والجريمة ) (*) و أن ( ازدواج الشخصية الذكورية – القوّامة - بين الظاهر المتدين الوقور والباطن الماجن المعربد هو الذي يجعل المرأة – الخاضعة للقوامة - تمشي مشية الغراب ) (**) وفي المنطق الرياضي توجد قاعدة اسمها : العكس النقيض لاستلزام ملخصها : إذا كان ( الحادث أ) يستلزم ( الحادث ب) فهذا يكافئ منطقيا أن (عكس الحادث ب) يستلزم (عكس الحادث أ) ، فإذا طبقنا هذا المنطق الرياضي على الجملة (*) فإننا نحصل على الجملة المكافئة لها : ( للقضاء على الخراب والفساد علينا بمحاربة العنف و علينا بالفهم الصحيح للدين) وإذا طبَّقناه على الجملة (**) فإننا نحصل على الجملة المكافئة لها التالية : ( لكي لانجعل المرأة تمشي مشية الغراب يجب القضاء على إزدواج الشخصية الذكورية فيُظهر الرجل نفس ما يُبطن ) وإذا كان هذا ما تقوله رواية نوال السعداوي فكيف نتهمها بالترويج لتدمير مؤسسة الزواج و إلى تمرد المرأة على الأخلاق وعلى قدسية الميثاق الغليظ ( الزواج ) ؟ ثم لنتأمل قولها في مقال لها بعنوان ( الله هو الضمير الحي وليس النصوص والطقوس ) تستنكر فيه فساد أخلاق بعض النساء : ( ترفض الواحدة منهن الزواج بشاب من عمرها مجهول فقير، تتصيد رجلا ناجحا ثريا وإن كان فى التسعين من عمره، تتزوجه بعقد عرفى أو دون عقد تحت اسم الحب، تنشد الصعود الاجتماعى والأدبى دون موهبة أو جهد، تستخدم أنوثتها والأدوات تحت يدها، كاميرا التليفزيون، أو صفحة تشرف عليها فى مجلة أو صحيفة، أو برنامج تعده لقناة فضائية، تستخدم كل رجل حسب المبدأ:
حسب حاجتها إليه، فهذا يساعدها للوصول إلى السلطات، وذاك يساعدها للحصول على منصب أعلى، يجدد لها أثاث بيتها، يسدد لها قسطا متأخرا فى ثمن شقتها، أو يشترى لها سيارة، يسدد نفقات طعامها وملابسها وفواتير الأدوية واشتراك النادى، يدعوها إلى المنتجع فى الساحل الشمالى أو الجنوبى، يرسلها إلى مؤتمر محلى أو عالمى، يرشح اسمها لجائزة أدبية أو فنية، يكتب لها رسالة الماجستير أو الدكتوراه، يعلمها اللغة الفرنسية أو الانجليزية أو الألمانية..
سألت بعض هؤلاء النساء: هل هذه أخلاق؟ أجابت واحدة منهن دون حياء:
حضرتك أخلاقية أوى يا دكتورة، هو ده عصرنا، عادى، عادى يا دكتورة ) (9)
هل يصدر مثل هذا الكلام عن امرأة ملحدة كافرة منحلة أخلاقيا ، أم عن امرأة واعية شديدة الغيرة على دين الله وعلى الأخلاق التي قال عنها رسول الله –صلى الله عليه وسلم - : ( الدينُ الخُلُقْ ) ؟ ومالفرق بين ما يحمله عنوان مقالها من معنى وبين معنى قول السيدة خديجة رضي الله عنها في حديثها عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :( كان قرآنا يمشي في الأسواق) ؟
رابعا :ماذا لو ؟
إن التهم والأوصاف التي أطلقت على الدكتورة نوال السعداوي تتناقض تماما مع حقيقة سيرتها الذاتية :
1- فقد تزوجت ثلات مرات ، وهذا ينسف تهمة أنها معقدة من الجنس الآخر أو أنها تدعو إلى الانفلات الجنسي ، بل إنها بهذه الزيجات تكون قد برهنت على إيمانها بالأسرة وبمؤسسة الزواج وأنها امرأة طبيعية سليمة من أية عقدة جنسية .
2 - وأنجبت ولدا وبنتا ، أحسنت تربيتهما ، أما الإبنة فهي الدكتورة منى نوال حلمي وهي كاتبة وشاعرة ، أما الإبن فأنجبته من زواجها الثالث من الدكتور شريف حتاتة ، طبيب ومفكر مرموق وكاتب فذ ، مشهور على المستوى الدولي ، هذا الرجل الذي لا يجد حرجا من الإعتراف أنه ، هو من وضع لافتة باسم زوجته الدكتورة نوال السعداوي ، عنواناً لمنزلهما، وذلك لسبب بسيط يراه ، هو أنها معروفة أكثر منه ، محاولاً من وراء تصرفه هذا القول إن المرأة يمكن أن تكون متقدمة أكثر من الرجل ، كما لا يمانع أن يحمل أولاده اسم أمهم إلى جانب اسمه ، طالما كانت الأم صاحبة الدور الأهم والأبرز في حياة أبنائها ، خاصة أنه لا وجود لأي دليل يمنع هذا الوضع في الاسلام ، مستشهدا بالقصة التالية :(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك.قال: ثم من؟ قال:أمك.قال: ثم من؟قال: أمك.قال: ثم من؟قال:ثم أباك).
إذن الدكتورة نوال السعداوي تعيش حياة زوجية جد ناجحة مع شريك يقاسمها همومها الفكرية ويتفق معها في آرائها بل ويقدمها على نفسه أحيانا ، فكيف يتهمها البعض أنها معقدة ؟ بل العكس هي تعيش في بيئة أسرية سليمة ، وتنسجم إلى درجة الإتفاق مع زوجها واولادها ، وهذا هو الجو الذي وفَّر لها حرية الفكر والتأمل والتدبر لأحكام الدين الإسلامي الصحيحة غير تلك المزيفة المفصلة حسب الطلب .
إذا كان هناك من يعتقد أن آراء نوال السعداوي غير متزنة وصادرة عن امرأة معقدة وغير طبيعية ، رغم تمتعها بحياة أسرية طبيعية بل ومثالية ، ورغم حرصها على الظهور بمظهر وقور خال من الإثارة والإغراء ، فماذا كان سيقال عنها لو كانت تحمل كيلوغرامات من المساحيق على وجهها وتلون شعرها حسب الموضة وترتدي مثل ما ترتديه صاحبة ( بوس الواوا...أحْ ) ؟ وماذا لو كانت لها بنتا تُنكرها وتتبرَّأ منها علنا ؟ هل كان أحد سيلعنها أم أنها حينئذ ستصبح في نظر كل خصومها نجمة النجوم ومهجة القلوب و.. و... و..... أستغفر الله.
خامسا: نقاط غير مضيئة : يركز خصوم الدكتورة نوال السعداوي في هجومهم عليها ، على القضايا المثيرة لحفيظة المسلم البسيط ، الذي يغار على دينه ويتعصب لأفكاره ويرفض التغيير، بسبب عجزه عن استيعاب الأفكار الجديدة واستكانته لما هو كائن دون محاولة فهم ما يمكن أن يكون ، وتقولبه الإرادي ضمن أنماط جامدة ، رغم أن الإسلام هو دين العقل ودين الفكر لأن الله جعل معجزة محمد صلى الله عليه وسلم هي ( القرآن الكريم ) وهو كلام الله الذي يتميز بالإعجاز ، ويحتمل درجات متفاوتة من الفهم تتكيف مع تطور الإنسان لأنه كتاب صالح لكل زمان ومكان ، كما أنه كتاب جامع لكافة الأحكام والتشريعات المتعلقة بكل صغيرة وكبيرة ، والاحتكام إليه هو أفضل طريقة للرد على من نعتقد أنه يهاجم الإسلام ، وليس بالشتم والتكفير والنيل اللفظي ، وتجييش الجماهير ضده ، خاصة أن الدكتورة نوال السعداوي أعلنت أكثر من مرة استعدادها للمناقشة وتقديم الحجج الدامغة ، المؤكدة لصواب آرائها ، فكان الصمت المريب من قِبل خصومها ، هل يفتقد هؤلاء إلى الحجج ؟ إذا كان الجواب ( لا ) فلماذا يفوِّت هؤلاء على أنفسهم وعلى أتباعهم فرصة قص لسان من يعتقدون أنها مرتدة عن دين الله؟
1 – الحجاب : (في سؤال لها عن لبس الحجاب وموقفها منه، وهل هي مع لبس الحجاب او ضده؟؟؟؟ قالت د. نوال أن كل السيدات المحجبات، لا يعني انهن شريفات، وان كل السيدات غير المحجبات لا يعني انهن غير شريفات، إن المرأة المحجبة والتي تغطي شعر رأسها قد تكون متخلفة، وأن عقلها مغلق، كما أن الحجاب لا علاقة له بالأخلاق, أخلاق المرأة بتظهر في عينيها, وفي حديثها, وفي مشيتها، بعض المحجبات، يلبسوا الحجاب، ويمشوا يترقوصوا على كعب عالي، ويحطوا الروج والمكياج بشكل عام، ومنهن من يلبسن بنطلونات الجينز الأمريكية، ويكشفن عن بطونهن، وهناك محجبات حضرن اليها (كما تقول) وقلن لها بانهن يؤيدنها بالكامل، وما يضعنه من حجاب، هو فقط مراعاة للعادات والتقاليد في المجتمع الذي يعشن فيه ) (10 ) فهي ليست ضد من ترتدي الحجاب لكنها ضد أن يتناقض مظهر المتحجبة مع شروط الحجاب الشرعي من جهة ( كتعرية البطن وما أكثره ) ومن جهة مع السلوك والأخلاق ، فهل هذا كفر ؟
2 – الحج : تقول نوال السعداوي : ( نص ( وتقصد نصف ) مناسك الحج مأخوذة من الوثنية… أنا نفسي أعرف بيضربوا إبليس إزاي؟ ونفسي أعرف بيعبدوا الحجر الإسود ليه… الحج ياجماعة عادة وثنية موروثه من عبدة الأصنام!!!) إنها تتساءل بحرقة ، أسئلة يمكن لأي مسلم أن يطرحها عن رجم إبليس وتقبيل الحجر الأسود ، وكان على علماء الإسلام إعطاء الأجوبة المقنعة والشافية بدل السب والشتم ، لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلُكَ ما قبَّلْتُكَ" (متفقٌ عليه). ولم يتهمه أحد بالكفر ، فما كان على خصوم الدكتورة إلاّ إفحامها بالحجة :
لقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ، وكان يقول ( خذوا عني مناسككم ) وليس من الحكمة أن نعترض على سنة ٍ حتى لو لم نفقه الحكمة منها ، قد يكون امتحانا من الله لمدى امتثالنا و طاعتنا العمياء له جل وعلا و ليس من العقل أن نفعل مثل إبليس الذي رفض السجود لآدم ، أي رفض أمر الله فاستحق الخلود في الجحيم .
3 – الختان : - وتقول أيضا عن قضية الختان للرجل:
(نفسي أعرف بتختنوا الرجاله ليه؟ وإيه الهدف؟ أنا دكتورة وأقولها بالفم المليان الختان سواء كان للراجل أو للبنت خطر جدا وظاهرة صحية خطيرة تهدد سلامة الفرد في المجتمع) فإذا علمنا أن معظم الناس يِؤجلون عملية الختان سنوات حتى يكبر الولد و ينتبه ، وبالتالي يتشكل لديه حاجز نفسي من هذه العملية مسبقا ، نجد الدكتورة على حق ، أما لو حرصنا جميعا على ختان أطفالنا في اليوم السابع لولادتهم ، كما هو موصى به في السنة النبوية ، فستكون العملية إجراءا وقائيا صحيا ، اعترف بصوابه العلماء وأصبحوا ينصحون به ، ولعل الدكتورة تتحدث بناءا على حالات مرضية تعاملت معها كطبيبة نفسية ، و كان الختان ( في سن كبيرة بالتأكيد ) سببا فيها .
4 – دين الدولة : وعن دين الدولة قالت :( لا يجب أن يكون للدولة أي دين أو مصدر ديني للتشريعات. أما الأفراد فهم الذين لهم دين، وكل فرد حر في اختيار دينه في بيته. جميع القوانين والتشريعات يجب أن تكون مدنية. أنا ضد الدولة الدينية لأنها عنصرية بالطبيعة وتفرق بين المسلمين والأقباط، فعندما يقول الدستور المصري ان دين الدولة هو الإسلام والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، فهذا كلام مضاد للحرية والديمقراطية والعبادة، ولهذا السبب نعاني من مشكلة الفتنة الطائفية ، يجب فصل الدين عن الدولة تماما وإلا سنغرق في بحور من الدم) هذه وجهة نظر ، واجتهاد ليس فيه من الكفر شيء ، فالدكتورة ترى أن الفتنة الطائفية تتغذى على المفاضلة بين الأديان داخل الدولة الواحدة ، ومن تمة تعتقد أن عدم تحديد دين الدولة قد يمنح إحساسا بالمساواة بين مختلف الأديان ، فتختنق الفتنة وتموت ، وتطالب بذلك من باب درء المفاسد ، هذا اجتهاد منها فإن أصابت فلها أجرين وإن أخطأت فلها أجر واحد ، وكفى الله المؤمنين شر السب والشتم والتكفير.
سادسا: لكل عالم هفوة :لا تبالي نوال السعداوي بالصدمة التي يمكن أن تتسبب فيها جرأتها للقاريء البسيط ، الذي يعتبر أي تغيير في المفاهيم الدينية كفرا وإلحادا ، لذلك تغرقه دفعة واحدة بأفكار يعجز عن هضمها فيصاب بالتسمم ، ولو ترفّقت قليلا و أعطته تلك الأفكار على جرعات مناسبة لنجحت في كسب ثقة أكبر ،
لقد تجرأت نوال السعداوي في كثير من آرائها بشكل يوحي بالكفر لأول وهلة ، كقولها ( أنا بنت الله ، والناس جميعا هم أبناء الله ) ولا أستطيع أن أفهم من كلامها هذا أنها تقصد البنوة التي نعرفها ، فالله واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ، وهي تعلم ذلك وتعيه لكنها تريد أن تتحدى خصومها بكلام مستفز ، مبررة ذلك بأن المسيحيين يقولون أن عيسى ابن الله ولا أحد يحاربهم ، هل هي مشاكسة جريئة من أمرأة تؤمن بحريتها المطلقة أم هو تعبير مجازي عن صفاء علاقتها بالله كرد ٍّ قوي على من يتهمونها بالكفر الصريح ؟ أم كلاهما معا ؟ كما بالغت في الجرأة عندما كتبت مسرحية مستفزة العنوان ( الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة ) و استحضرت الشخصيات الممنوعة من الإستنطاق ، ووظفت كل ذلك بإسقاط عمودي على الحياة البشرية ، هذه المسرحية التي : ( لا تعتمد على بناء درامي أكثر من اعتمادها على حبكة فلسفية تطرح من خلالها المؤلفة جدالاً لا ينتهي حول الدين والسياسة والأخلاق وحقوق المرأة. الجدال يأتي معظم الوقت في صورة تخبط بين أفكار متقابلة ليعبّر عن واقع تدعو الكاتبة إلى إصلاحه حتى وإن كان الثمن اختراق المقدسات وهزّ ثباتها ) ( 11) وطبعا هي بذلك تزيد الطين بلة وتمنح لخصومها المزيد من الأسباب لتأكيد كل التهم القديمة واختراع تهم جديدة لا تهدر دمها فقط بل تجعله تأشيرة مجانية للدخول إلى الجنة ، هل هي شجاعة الفراشة أمام أفواه البراكين ، أم هي حكمة امرأة في الثمانين ؟
سابعا: كلمة لابد منها : ليس من العدل أن نتهم الآخرين لمجرد أنهم يخالفوننا الرأي ، وليس من الرِّدة أن نجتهد في فهم ديننا ونجدد في تأويل وتفسير معجزة قوامها الكلام ومفتاحها العقل هي القرآن الكريم ، وليس من العيب أن نكتشف أننا كنا على خطأ فنتوب عنه ، وليس من الكفر أن نسأل ونتساءل حتى نبلغ اليقين : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) سورة البقرة الآية 260 .
هوامش:
( 1 ) : عن الحوار المتمدن العدد 1849 – 9 / 3 / 2007
( 2 ) : أ.د. نظمي خليل أبو العطا موسى
www.nazme.net
أخبار الخليج – الإسلامي - العدد (10598) الجمعة 11 ربيع الأول 1428هـ - 30 مارس 2007م
( 3 ) و ( 8 ) : مقال ( نوال السعداوي بين الرواية والغواية ) للأستاذ رابح خيدوسي - أصوات الشمال
( 4 ) و ( 5 ) و ( 6 ) و ( 7 ) : رواية ( امرأة في نقطة الصفر ) للدكتورة نوال السعداوي
( 9 ) عن الموقع الرسمي للدكتورة نوال السعداوي والدكتور شريف حتاتة – بقلم الدكتورة – 29 / 9 / 2009
( 10 ) دنيا الرأي : وفاء الكيلاني في مقابلة مع د.نوال السعداوي بقلم:احمد محمود القاسم 11 / 12 /2009
( 11 ) بقلم أهلال محمد – مدونات مكتوب – 2 / 7 / 2008.

الجريمة الكاملة

بقلم : رتيبة بودلال
يقال أنه لا توجد جريمة كاملة ، إذ لابد للمجرم أن يرتكب خطأه القاتل ، الذي يتحول فيما بعد إلى دليل إدانة ، لكن يبدو أن الجريمة الكاملة قد وقعت ، واكتملت فصولها ، وبدأت ثمارها السامة تتفتق عن سموم تفوح ريحها وتمتزج بطعامنا وشرابنا و بالهواء الذي نتنفسه ، جريمة تسمم حياتنا و تحولها إلى كابوس مرعب ، ومادام المجرم الحقيقي زئبقي القوام ينزلق من بين أيدينا كلما حاولنا الظفر به ، فإن الجريمة تظل كاملة إلى أن يثبت العكس .

يقال أنه لا توجد جريمة كاملة ، إذ لابد للمجرم أن يرتكب خطأه القاتل ، الذي يتحول فيما بعد إلى دليل إدانة ، لكن يبدو أن الجريمة الكاملة قد وقعت ، واكتملت فصولها ، وبدأت ثمارها السامة تتفتق عن سموم تفوح ريحها وتمتزج بطعامنا وشرابنا و بالهواء الذي نتنفسه ، جريمة تسمم حياتنا و تحولها إلى كابوس مرعب ، ومادام المجرم الحقيقي زئبقي القوام ينزلق من بين أيدينا كلما حاولنا الظفر به ، فإن الجريمة تظل كاملة إلى أن يثبت العكس .
1 – الزواج هل أصبح فرض كفاية؟
يقول الحق سبحانه وتعالى في الآية 21 من سورة الروم: ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) سبحان الله ، لما كانت مسؤولية الحياة شاقة وصعبة ، اقتضت رحمته سبحانه وتعالى بعباده ألاّ يتركهم فرادى ، بل جعلهم أزواجا – ولم يجعلهم ثلاثيات أو رباعيات – بل أزواجا بالضبط ، أي فردين إثنين لا ثالث لهما ، فردين تربطهما أقوى رابطة إنسانية سماها الله ( الميثاق الغليظ ) ، وهي رابطة مبنية على التكامل والتشارك في كل شيء : في الرزق ، في الأولاد ، في المسكن ، وفي كل شيء وذلك في جو من السكينة والمودة والرحمة ، فمن حق أي إنسان إذن أن يكافح ويجتهد من أجل الحصول على ذلك الشريك وتلك المودة والرحمة ، من حقه أن يقاتل من أجل من يراه مناسبا له ، فبأي حق إذن نحكم على الشباب العازب بالحرمان من كل ذلك ، فنبيح للبعض التعدد بلا ضوابط ونحرم البعض الآخر نهائيا؟
2 – وماذا عن عنوسة الذكور؟
قبل سنوات قرأت في الجرائد عن أيام دراسية انعقدت بجامعة جيجل ، شارك فيها أساتذة جامعيون ورجال دين ، ناقشوا خلالها استفحال مشكلة تأخر سن الزواج عند المرأة وارتفاع عدد الفتيات العازبات فوق سن الثلاثين ، واندهشت لذلك الإقتراح الذي اهتدت إليه زمرة العقلاء والمتمثل في تعديل بسيط في قانون الأسرة ، يبيح للرجل أن ينكح ما طاب له من النساء ، مثنى وثلاث ورباع ، وتساءلت حينها عما إذا كان تأخر سن الزواج مشكلا خاصا بالإناث دون الذكور ، ورحت أتخيل كيفية تطبيق ذلك الحل العجيب : الرجال القادرون ، ذوي الأرصدة الضخمة والجيوب المنتفخة سينكحون من النساء ليس فقط أربعة بل إن الواحد منهم كلما أتمهن أربعا طلق أكبرهن واستخلفها بأخرى ، وهكذا حتى نصل إلى زمن تصبح فيه كل الإناث فوق سن العشرين زوجات أو مطلقات ، المهم أن الواحدة منهن تكون قد نالت نصيبها من نعيم الفحولة وبركات الفياغرا ، لتترك بعد ذلك مكانها لأختها العانس .
وتساءلت : وماذا بعد؟ ماذا بعد أن تتزوج كل الفتيات ؟ سيتكون لنا بالمقابل جيش من الشباب الذي لم يستطع الباءة ، يتفرج الواحد منهم بألم وحسرة على فتاة أحلامه وريحانة أيامه وهي تزف إلى غيره ، ثم تصبح أما لطفل ليس منه ، وربما تحولت بعد ذلك إلى أرملة أو مطلقة أو مومس ، فيفقد المسكين قدرته حتى على الحلم ، ليتحول أخيرا إلى مجنون يجوب الشوارع أو – لم لا ينتحر – فإذا لم ينتحر وامتلأت الشوارع بالمجانين ، حق لهؤلاء العقلاء عقد أيام دراسية جديدة للنظر في الأمر وقد تنتهي باقتراح إقامة محرقة جماعية هائلة ( هولوكوست ) يتم فيها التخلص من هؤلاء الشباب ، ولكن هل سيظل شبابنا ينتظر حتى يحدث كل هذا ؟ إنهم شباب وهذا يعني طاقة متفجرة طافحة من الإبداع والقدرة على العطاء ، إنهم شباب أي : إعصار من القوة والإرادة فإلى أين يمضي هذا الشاب بكل الطاقات التي يطفح بها جسمه وعقله وسائر جوارحه وهو يتفرج على عقلاء المجتمع الذين يفترض أن يجافيهم النوم ويعافون الراحة من أجل إيجاد حلول لمشاكله ، فإذا بهم يولمون الولائم ويقيمون العزائم ويشحذون الهمم ويستنفرون كل قواهم من أجل إيجاد مخرج قانوني يبيح لهم اقتسام الغنيمة ؟ إن الإجابة على هذا السؤال لم تعد بحاجة إلى اجتهاد ، إذ يكفي أن نطالع الجرائد اليومية لنجد أخبار شبابنا وهم ينتحرون على عتبة الألفية الثالثة ، شباب لم يجدوا أمامهم سوى الخيارات القاتلة : إما الحرقة ، التي تنتهي غالبا بالموت أو الفشل ، وإما الخروج عن المجتمع والإلتحاق بالجماعات الإرهابية ، وإما السقوط في مستنقع المخدرات والتأهل بذلك لارتكاب كل أنواع الفواحش والكبائر والجرائم ، كاختطاف القصّر و الاعتداء عليهم جنسيا ، وحتى اختطاف البالغين والنيل منهم جنسيا ، ألم نقرأ في الجرائد قبل أشهر عن اختطاف شاب وخطيبته ثم اغتصاب كليهما ؟ فضلا عن اختطاف أطفال ثم قتلهم من أجل رعشة واحدة مستعجلة ، ألم نتساءل عن هوية المختطِف ؟ ولماذا نتساءل إذا كانت الجرائد تقول في كل مرة أنه شاب في العقد الثالث أو الرابع ؟ إنه بالتأكيد واحد من الشباب الذين تأكد لديهم أن الحياة غابة كبيرة تسكنها الديناصورات والتماسيح والزواحف ، وأنهم في تلك الغابة ليسوا سوى جرذانا ، إذا لم تسحقهم أقدام الديناصورات ، ابتلعتهم الأفاعي أو تخطّفتهم أنياب التماسيح ،هؤلاء الشباب رأوا موتهم بأعينهم فتساوت عندهم الأشياء وتميعت ، تماهت ، وأصبح اللون الأسود يحجب عن عيونهم بوارق الأمل ، فوصلوا إلى درجة من فقدان العقل تجعلهم ممن رفع عنهم القلم حتى يعقلون ؟ بل حتى يعقل ولاة الأمور في بلدنا ، فيدركون أن الشباب طاقة خلاقة إذا استثمرنا فيها غنمنا وإذا حاولنا ردمها أو تجاهلها انفجرت فينا ودمرتنا .
حريٌّ بنا إذن بدل مناقشة مشكلة عنوسة الفتيات ، أن نبحث عن طريقة نوفر بها لشبابنا دخلا ماديا قارا يمكنهم من الإنفاق على أسرهم بعد تزويجهم ، نعم تزويجهم بدل صرف الملايير على الكرنفالات العقيمة والمهرجانات المترفة .
إن تشخيص الداء بدقة هو وحده الكفيل بوصف الترياق الفعال ، ووضع ايدينا على أصل المشكلة هو بداية إيجاد حل لها ، أما معالجة مشكلة العنوسة بإباحة التعدد أو بجعله واجبا – كما طالب البعض – فهو يشبه معالجة حرق من الدرجة الثالثة بإجراء تدليك له داخل حمام ساخن ، نعم : فالواقع يقول أن إهمال الآباء لأولادهم هو أول نتائج إعادة الزواج ، وهذا يعني أن الرجل الذي سيحل مشكلة عنوسة فتاة بزواجه منها سيُنتج لنا بالمقابل قبيلة من الأبناء والبنات الذين سيرفع عنهم القلم بسبب الإهمال الأبوي والحرمان العاطفي والمادي ، والنتيجة هي مضاعفة عدد المجرمين والمجانين والعوانس ، وكفى بالواقع برهانا ودليلا ، إذن حل مشكلة عنوسة الفتيات لن يكون إلاّ بتزويج الشباب ، وتوفير العيش الكريم لهم ولأسرهم .
3 – كلمة حق أريد بها باطل :
إن كثرة العوانس لا يعدو كونه حجة جديدة لاستباحة أجساد الفتيات اللواتي تأخر زواجهن ، والدليل على ذلك هو تلك الابتكارات العجيبة لأشكال الزواج ، من زواج المتعة إلى زواج المسيار ، وما أدراك ما المسيار ؟ زواج لادور فيه للرجل إلا دور الذكورة ، ذلك الذي تستطيعه حتى أحقر خلق الله وأضأل مخلوقاته ( الحيوانات والحشرات ..والكائنات المجهرية ...) كأن الفتاة التي تأخر زواجها قد أصيبت بحمى الجنس إلى الدرجة التى تجعلها تتنازل عن كل صفات الرجولة في قرينها وتكتفي منه بدور العشيق الجبان ، الأمر في نظري ليس أكثر من رغبة في اقتسام ما يعتقده هؤلاء غنيمة ، ولو كان هؤلاء يتحرون مرضاة ربهم لتريثوا كثيرا قبل أن يفرحوا برخصة التعدد ، لأن من أخطر المهالك أن يستسهل المرء ما يوافق هواه ويستصعب ما قد يثقل عليه بالمسؤولية ، وحتى لا يكون كلامي مجرد رأي قد يسفهه البعض ، سأحاول الاحتكام إلى سنة سيد الخلق ، الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم – فقد تزوج السيدة خديجة – رضي الله عنها- وهي التي تكبره بخمس عشرة سنة ، فمن يا ترى من دعاة التعدد يقبل بهذا ؟ بل كلهم لا يقصدون سوى الفتيات الصغيرات ، ولا أحد منهم يقصد المرأة الناضجة الحصيفة .
كما تزوج – صلى الله عليه وسلم – : نُسيبة بنت كعب – رضي الله عنها - وكانت عجوزا وكان أبناؤها رجالا ، تكريما وصيانة لها لأنها أرملة شهيد ، فأين بين رجال هذا الزمان من يقصد في معاودة الزواج ذلك المعنى السامي ، المجرد من شهوة الفرج التي وحدها تحرك دعاة التعدد ؟ أين ذلك الشهم الذي يتزوج أرملة شهيد وأم أيتام لينال أجر كفالة اليتيم وأجر تحصين أرملة الشهيد؟
وتزوج – صلى الله عليه وسلم – : زينب بنت جحش – رضي الله عنها - وكانت زوجة لموليه زيد بن حارثة ، ليبطل عادة التبني ، وفي كل زيجاته – صلى الله عليه وسلم – كانت هناك حكمة وغاية فقهية أراد أن يعلمنها بطريقة عملية لتكون سنة لنا بعده ، ولم يتزوج بكرا إلاّ مرة واحدة ، عندما تزوج من السيدة عائشة – رضي الله عنها – وحتى هذا الزواج فيه حكمة جليلة ، فقد جاء بعد وفاة خديجة رضي الله عنها ، ووفاة عمه أبو طالب في عام الحزن ، فأهداه الله فرحة الزواج من بكر ، لعل ذلك يخفف عنه ويعينه على مشقة الرسالة العظيمة التي كلفه الله بها ، أما رجال هذا الزمان فلن يختاروا إلا أبكارا ، غريرات ، وهذا يجعلنا نتساءل : إذا صدر قانون يبيح التعدد ، هل سنقضي على مشكلة العنوسة ؟ أم أن أي رجل سيختار الصغيرة البضة الطرية الطائشة ، ويترك العانس التي من أجلها وُجد قانون التعدد؟ فليتق دعاة إباحة التعدد ربهم وليحاسبوا دواخلهم وطواياهم ، وليختلي كل واحد منهم بنفسه ثم يستحضر رقابة ربه وعظيم بطشه وليسأل نفسه : لماذا يسيل لعابه من أجل فكرة التعدد هل لإرضاء ربه أم لإرضاء شهوة فرجه ؟ وليتّق نارا وقودها الناس والحجارة.
4 - ماذا لو سألناهن؟
هل ترحب الفتاة التي تأخر زواجها بهذا الحل ؟ تصبح زوجة ثانية لرجل ستظل طيلة حياتها تعتبر زواجه منها مجرد خدمة إنسانية و شفقة ، فالمسكين رغم أنه كان يعيش حياة مستقرة مع زوجته وأولاده إلا ّ أنه قبل بالتنازل والتضحية ، فتكرم وتزوجها متحملا أعباء زواج ثان ٍ لمجرد ألاّ يتركها بلا زواج !! هل ستقبل أن تعيش زوجة ثانية لرجل تزوجها فوق الشبع ؟
وعدت أقول لنفسي : وما أدراني ؟ قد يكون الوضع متعفنا إلى درجة التهافت و التسابق والتقاتل ؟ ربما أنا خارج مجال التغطية لذلك أفكر بطريقة تناسبني أنا وحدي و تنتصر لقناعاتي الخاصة ، دار رأسي كثيرا وأنا أتطفل على بعض النساء اللواتي بلغن سنا كبيرة دون زواج ، لمعرفة آرائهن ، وقد تعمدت تجاهل الآراء النظرية التي أدلت بها من لم تتوفر لهن فرصة الزواج من رجل متزوج ، لأن آراء هن قد تُسفّه بقول مأثور واحد (عجز عن قطف العنب فقال إنه حامض) و اخترت عمدا مجموعة تتوفر في عناصرها شروطا محددة :
أ‌- السن فوق الثلاثين ولم يسبق لها الزواج .
ب‌- تقدم لخطبتها رجل متزوج .
ت‌- زوجة هذا الرجل حية وصحتها جيدة ولهما أولاد .
ث‌- لايهم إن كانت قبلت هذا الزواج أم رفضته .
وفوجئت بحقائق لم أتصورها ، رغم بعض الآراء المتوقعة ، فمثلا هناك من :
1- رفضت إعطاء تفسير لقبولها واعتبرت الزواج من أي رجل حقا لأي أمرأة مهما كان متزوجا ومهما كان رأي زوجته الأولى .
2- قبلت الزواج من متزوج لأن ذلك عادي في عائلتها ومعمول به.
3- قبلت الزواج من متزوج لأنه منكوب في زواجه الأول وواثقة من قدرتها على تعويضه وبالتالي تكون هي أهم من الأولى.
4- رفضت إعطاء مبرر لرفضها ، بل ترفض حتى أن تعامل على أنها عانس وفي ورطة ، وتعتبر أن خطبة المتزوج لها إهانة لكرامتها.
5- رفضت الزواج من متزوج لأنها تجاوزت مرحلة الغباء الأنثوي الذي يجعلها تربط عنقها بحبل وتسلمه لرجل يتحكم فيها.
6- رفضت الزواج لأنها بعدما بلغت مرحلة من النضج الفكري والنجاح في الدراسة وفي العمل ، اقتنعت بإمكانية العيش دون مسؤولية الزواج والأمومة الكفيلين بعرقلة مسارها المهني .
7- رفضت الزواج من متزوج لأنها تؤمن أنها على موعد مع فارس أحلام أعزب ، وتفضل الموت على أن تتنازل وتتزوج من صاحب سوابق زواجية.
8- قبلت الزواج من زوج صديقتها الحميمة التي أقنعتها أنها اختارتها لزوجها حتى تضرب عصفورين بحجر : تجنب صديقتها العنوسة من جهة ، وتضمن ألاّ يميل زوجها إلى أخرى لا تعرفها ولا تضمن مودتها من جهة ثانية.
نعم ، كل هذه النماذج حقيقية ، والحصول عليها استهلك مني سنوات ، واضطرني أحيانا إلى الإندماج المتعمد في بعض التعارفات العابرة ، التي تخدم فضولي وتغذي نهم البحث عندي ، ولكن القصة التي صعقتني أكثر هي قصة تلك المرأة التي خطبت لزوجها ثم أقامت له عرسا كما تفعل الأم لوحيدها ، والتي قررت بمحض إرادتها أن تتخلى عن حقها في فراش الزوجية ، بل إنها كلما جاء دورها ليبيت في غرفتها أخذته من يده إلى غرفة عروسه وتمنت لهما ليلة سعيدة وذرية صالحة ، عندما سمعت قصتها قررت أن ألتقيها بأية طريقة ، لكن القدر وضعها أمامي بالصدفة حيث التقيتها في غرفة الانتظار بعيادة طبيب النساء ، كانت برفقة ضرتها الحامل ، وكانت النسوة يتحدثن باستغراب ممزوج بالاستنكار حينا و بالإعجاب حينا آخر، عن المرأة التي زوجته ثم قررت التحول إلى أم له ولعروسه ، تشرف على نظام البيت وتتولى تسيير أموره بل إنهما لا يخطوان خطوة قبل استشارتها والتنور برأيها ، شعرت بغبطة عارمة لأني سأضع عيني في عينها ثم أسألها عن الحكمة التي أشرقت في سماء عقلها وهدتها إلى هذا التصرف ، ولكني كنت أخشى أن تراوغني فلا تصدقني القول ، لذلك قررت مباغتتها بجملة استفزازية : ( أيتها الذكية لقد عرفت ِ كيف تروضينه ، لقد خشيت ِ أن يُدخل عليك ضرة تسحر قلبه وتخطف لبه وتركنك على الرف فتنازلت بمحض إرادتك ، يا للدهاء ) لأكتشف أن المرأة أدهى مما توقعت ، فقد أجابتي بخبث: ( عاند ولا تحسد !! ) لكنني راوغتها مرة أخرى قائلة ( هل تريدين إقناعي أن تنازلك عن زوجك لامرأة أخرى هو صفقة رابحة وأنك تستحقين الحسد عليها ؟ هههههه.... ) فانفجرت المرأة مدافعة عن صفقتها قائلة ( وهل تريدين الإدعاء أن الخضوع اليومي لرغبات الزوج و شطحات شهوته هو الصفقة الرابحة ؟ ألا تمل المرأة من التعروس اليومي وهي التي تعمل بكدِّ العبيد ، وصبر الحمير منذ أولى ساعات النهار ؟ ألا يتحول ذلك إلى عبء ثقيل يتعين عليها التملص منه ؟ لقد تخلصت من ذلى الأنثوي بأقل الخسائر ، فبدل التقصير في حق زوجي و دفعه إلى البحث عن أخرى وتركي من أجلها ، فضلت أن آتيه بتلك الأخرى وأن أمن عليه وعليها بشكل يحفظ لي مكانتي كربة بيت ، لن يتركني ولن أفقد الرفاهية المادية التي يوفرها لي ، على العكس : أنا ربة البيت ، أنا الكل في الكل وليفرح هو بدميته الجديدة كما يشاء !! ولكن بإرادتي وتحت نظري ، أليست صفقة رابحة ؟ تخلصت منه دون أن يدرك ذلك بل لقد نلت كل تقديره وعرفانه ، من مثلي هاه... من منكم مثلي ؟ )
أعترف أنني صعقت لسببين : الأول هو الثقافة الجنسية لهذه المرأة التي جعلتها تعتبر نفسها مجرد مفعول به خلال العلاقة الزوجية ، وهي ثقافة مدمرة شائعة بين كثير من النساء ، والثاني هو رد فعلها المتمثل في : التخلي عن قرينها لأخرى بطريقة تحفظ معها ما يمثله هذا الزوج كمجرد منفق عليها وعلى أولادها ، ورحت أتساءل : رباه ..كم يا ترى عدد اللواتي يكتفين بدور المفعول به ، ولم تكن الواحدة منهن فاعلا يوما ولا مفعولا معه ولا حتى مفعولا لأجله ؟ وكم هو عدد الرجال الذين يعتقد الواحد منهم أن زواجه الثاني برضى الزوجة الأولى دليل حب منها ولا يعرف أنه مؤشر على أن تلك الزوجة قد ملّت منه واستغنت عن خدماته ؟ بل ألا يحق للرجل المتزوج من المرأة ( المفعول به ) أن يبحث عن المرأة ( الفاعل ) ؟
أشعر أنني قد خرجت عن الموضوع ولكني معذورة ، فالأمور متداخلة حقا وليس من السهل فصلها ، لكن أهم نتيجة توصلت إليها بعد سبر الآراء هذا هي أن : ( لا أحد يعرف ما يدور في عقل المرأة التي تأخر زواجها ، ولا حتى امرأة مثلها )
5 – تعددت الأجناس والعنوسة واحدة :
لا فرق في نظري بين عنوسة الذكر وعنوسة الأنثى ، فمهما كان جنس الإنسان يظل بحاجة إلى شقه الثاني ، إلى رفيق درب يتقاسم معه وجع الصبر على مشقة الحياة ، ويتشارك معه أفراحه وآماله ، ويسكن إلى حضنه عندما يحتاج ضمة حنان وتعاطف ، ومهما كان جنس الانسان يظل ظمآنا إلى رشفة مودة ، إلى ضمة ، إلى شمة ، إلى انصهار كامل في الآخر المكمل له ، وإلاَّ تحولت الحياة إلى عبء ثقيل وإلى رحلة مضنية ، إما أن يتحمل هذا الإنسان مرارتها ويصبر ، وإما أن يتحول إلى مجرم أو مجنون ، فهل يجوز لنا أن نحل مشكلة عنوسة البنات ونغفل عن عنوسة البنين ؟ إذن : ألا يعتبر حرمان الشباب مما سماه الله سبحانه وتعالى مودة ورحمة ، جريمة كاملة ؟ ألا يعتبر الحديث عن الفتاة التي تأخر زواجها كما لو أنها مجرد بضاعة كاسدة جريمة كاملة ؟ ألا يعتبر الحديث عن عنوسة البنات دون التطرق لعنوسة الذكور جريمة كاملة؟ ألا يعتبر التقصير في تحصين شبابنا ( بالزواج ) ضد أعاصير الانحراف جريمة كاملة ؟
هاهي الجريمة الكاملة تعربد علنا ، وتستعرض أنيابها ومخالبها دون خجل ، فإلى متى نتغافل عنها ؟ ومن منا سيجرؤ على الإمساك بالمجرم الحقيقي ، ذاك الذي قلت من البداية أنه زئبقي القوام ؟