بقلم : رتيبة بودلال
إهداء عام : إلى كل من يخالفني الرأي .
مقدمة : لطالما أُعجبت بشعار جريدة الشروق اليومي : ( رأينا صواب يحتمل الخطأ ، ورأيكم خطأ يحتمل الصواب )
عندما قرأت ( كتاب يحلمون ) للمتألقة فاطمة الزهراء بولعراس ، ابتسمت ثم قهقهت ، ثم داهمني الدوار ، فقد ازدحمت الأفكار ذات الصلة بهذا الموضوع في جمجمتي منذ زمن ، وما أسكتني إلا ضيق وقتي الذي تتشارك التهامه حتى النفاذ ، واجباتي المهنية والعائلية ، خاصة أنني أفضل التريث والتركيز وأتفادى الكتابة المستعجلة .
لقد مرت سبعة عشر يوما كاملة منذ قراءتي للنص ، ورغم مشاغل نهاية السنة الدراسية ، ظلت الأسئلة الملحة تنقر جمجمتي :
لماذا يكتب الكاتب ؟ لكي يبلغ أفكاره للآخرين ؟ لكي يفرغ شحنة مثعبة من البوح المكتوم ؟ أم لأنه يعتقد مثلا أن بإمكانه إصلاح الكون ؟ أم تراه يمتهن الكتابة من أجل ضمان لقمة العيش ، أي أن الكتابة بالنسبة له هي مجرد وظيفة؟ أو ربما يكتب لأن لقب ( أديب ) يستهويه ، ومن أجل الحصول عليه يجتهد صاحبنا في تلقيح ( وليس تنقيح ) أفكاره ، فيطعِّمها بقول أديب مشهور أو يستشهد بجملة مأثورة لفيلسوف معين أو ينسج على منوال رواية أو مسرحية لفلان خالد الذكر ، ساطع الفكر ، ويا للمهزلة ؟
راودتني الأسئلة منذ زمن بعيد ، لماذا يضحك أحدهم حتى تفيض الرغوة من شدقيه وهو يروي كيف أن أحدهم - آخر – قد شبه أسلوبه في الكتابة بأسلوب فلان المشهور ؟ أتذكر الآن عندما قرأ أستاذي في مادة اللغة العربية ( الأستاذ عبود ناصر ذكره الله بخير، وقد كنت طالبة في السنة الثالثة ثانوي ) مسودة قصتي الطويلة الأولى – هل يمكنني اعتبارها رواية ؟ - ثم قال أنني أكتب مثل غادة السمان ، حينها شعرت بالخجل لمجرد أن أتوقع أن من سيقرأ لي سيعتبرني مقلـِّدة ، واعتبرت الكتابة مثل غيري شبهة وسجنا ، يتعين عليَّ التخلص من نيرهما ، وكيف أنني كلما ومضتْ في دماغي فكرة ٌ ثم سبقني إليها غيري ، سارعت إلى وأدها حتى لا يُشتبه بي في سرقة أدبية ، هل هذا غباء مني ؟ كلا والله بل انه الحرص على الصدق فيما أكتب ، على ألا أكون نسخة مكررة مشوهة وبغيضة – لأن التطابق مستحيل في نظري - وعلى تقديم الجديد والمبدع للقارئ الذي ينبغي على الكاتب أن يحترم عقله ويثمِّن إقباله على القراءة فلا يصدمه أو يجعله يتفاجأ بالغث ِّ فالغث ِّفالغث.ّ
الكتابة إبداع ، وما لم تكن كذلك كانت استنساخا مقيتا ، لا يُنتج لنا سوى التشوهات والعاهات ، لذلك لا ينسجم جوهرها مع مسايرة الموضة ، فتسود موضة الرواية عقدا من الزمن يتهافت فيه الكتاب على السرد ثم يجيء دور الشعر فتنهمر القوافي والتفعيلات ثم تأخذ القصة دورها فالق ق ج ....وهكذا .
الكتابة إبداع ، لذلك تتخذ الشكل اللائق دون أن تلتزم بالتقليعات والصيحات ، بل تفرض نفسها إذا كانت جديرة بذلك وتستقطب جمهورها مهما كان شكلها ، لذلك أعيب على البعض انحيازهم لشكل إبداعي معين بحجة أننا في زمن ذلك الشكل دون سواه ، فالأشكال الأدبية في نظري لُغات ٌ يتقنها الكاتب ليتحدث بها حسب الحاجة والمناسبة ، لذلك يستطيع استعمالها يوميا وبالتوازي دون أن يكون ذلك مستهجنا أو معيبا ، بل العيب كله هو ادعاء القدرة على الصوم عن الشعر أو عن القصة أوعن الرواية أو غيرها ، مع التوجه إلى شكل آخر من أشكال الكتابة ، والالتزام به كما لو كان دينا ومعتقدا والخروج عنه كفر وزندقه ، وأتذكر أنني ذات أمسية شعرية من تنظيم جمعية الجاحظية ( سنة 1992) التقيت الزميلين عثمان تزغارت وعبد الكريم قذيفة في الرواق يتجادلان لأن أحدهما يعتبرني قاصة بينما الآخر يراني شاعرة ، مازلت حتى اليوم لا أفهم جدوى جدالهما ، فقد وجدتُني دائما أكتب و بعفوية تامة أشكالا مختلفة من الأدب، دون أن ألتفت إلى لونها أو أتدخل في تحديد جنسها .
أستطيع أن أتفهم الضغوط التي تثقل كاهل الكاتب الذي ....
الذي يأكل الخبز من وراء الكتابة...
نعم : عندما تكون الكتابة وسيلة استرزاق يضطر الكاتب إلى الاستماتة من أجل استمرار تدفقها، واستجابتها لقانون العرض والطلب ، وقد يصل به الأمر إلى إعلان موته الشعري أو الدخول في إضراب عن الطعام بل وإلى إضرام النار في جسده أمام مبنى وزارة الثقافة ولم لا ؟ لذلك يضطر الشاعر إلى تجريب السرد دون امتلاك أدواته ، لمجرد أن زمن الرواية قد أقبل ، وينحاز الروائي إلى نحت القصائد دون أزاميل لأن الزمن زمن الشعر، وهكذا تتميع الكتابة وتفقد جنسها ونجد أنفسنا أمام جنس هجين ، يولد ولا يلد ، والعياذ بالله.
نعم أتفهم تلك الضغوط لكنني لا أتفق مع الرضوخ لها ، بل وأعتبر الكتابة موهبة ينبغي الحفاظ عليها وتنميتها ، وذلك بعدم إقحامها في معركة الحصول على الخبز اليومي ، أعرف الأرقام الرسمية التي تتحدث عن ارتفاع نسبة البطالة ، لكن الكتابة في نظري تستحق أن ننزهها عن مرتبة المهنة .
نكتة : ذات مرة طلبت مني أحداهن أن أعد لها قائمة من الكلمات التي تنتهي بقافية معينة لأنها بصدد نظم قصيدة ورصيدها اللغوي ...يخونها.....
أرجوكم لا تضحكوا ، فهذه النكتة من النوع الذي يبعث على الانتحاب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق