بقلم : رتيبة بودلال
تحية كبيرة لشباب الجزائر ، الذي أثبت نضجا سياسيا متفردا ، فقد بارك ثورة تونس ضد دكتاتورها ، وثورة مصر ضد فرعونها العميل لإسرائيل ، دون أن يغفل عن عدم مطابقة هذين النموذجين للحالة الجزائرية .
رغم ترشيح وسائل الإعلام الأجنبية للجزائر كساحة تالية تكتسحها ثورة الشعوب العربية ، مما كان يمكن أن يهيئ شبابها نفسيا لاحتضان أية مبادرة تصب في هذا المسار ، إلا أن هذا الترشيح المرتجل غفل ( أو تغافل ) عن حقيقة أن الشعب الجزائري كان قد سبق غيره إلى الثورة حين خرج في 5 أكتوبر 88 ، وكان أول شعب عربي يجبر نظامه الحاكم على إقرار التعددية الحزبية ، والحريات الديمقراطية ، و أن هذا الشعب قد دفع فاتورة غالية من الدم واللاأمن طيلة عشرية سوداء كئيبة ، وبالتالي فإن الشباب الذي ولد من رحم العشرية السوداء ، يدرك ويعي نعمة الأمن الذي حققته القيادة الرشيدة ، بفضل تكامل مبادرتي الوئام المدني والمصالحة الوطنية ، ويعتبرها مكسبا باهظ القيمة ، لا ينبغي التفريط فيه.
ومع ذلك ارتأى البعض أنه الوقت المناسب لنقل الشرارة إلى الجزائر ، سواءا عن حسن نية أو عن سوء قصد ، واعتبر هؤلاء أنها فرصة تاريخية ناذرة ، في ظل التضامن الشعبي مع ثورتي تونس ومصر ، وتركيز عدسات الكاميرات العالمية على العواصم العربية ، وحرصا على تحقيق الكتالوجين التونسي والمصري رفع هؤلاء شعارات طبق الأصل – ياللتقليد الحرفي الأعمى – وغاب عن هؤلاء الوعي الشعبي العام للفرق الشاسع بين ديكتاتورية بن علي ، وفرعنة مبارك من جهة ، ولرشاد وإيجابية القيادة البوتفليقية من الجهة الأخرى ، لقد استلم السلطة عندما كانت الجزائر في أحلك سنين ما بعد الاستقلال ، فأعمل حكمته في العبور بها من بحر الدماء إلى شاطئ الأمن والأمان ، ومن منا لا يذكر تلك السنوات التي كان الواحد منا فيها يستيقظ مذعورا ليتحسس رقبته ؟ ومن منا استطاع أن ينسى تلك السنوات التي كانت لا تخلو فيها نشرة إخبارية من إعلان خبر أو أخبار اغتيالات ومذابح ومجازر جماعية ؟ ...الخ من مرارات تلك المرحلة المشئومة التي كان يمكن أن تتطور إلى الأسوأ فالأسوأ ، لكنها بحمد الله وتوفيقه انقلبت إلى وئام مدني ومصالحة وطنية ، وأمن وأمان ، وهذا وحده كاف بغض النظر عن الإنجازات الأخرى : اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وحتى رياضيا ، أم أننا نسينا الوقفة الأبوية للرئيس عندما فتح جسرا جويا بين الجزائر والسودان ، لتمكين الشباب من تشجيع فريقنا الوطني لكرة القدم ، مما أهدى للشعب الجزائري برمته أعظم فرحة في تاريخه بعد فرحة الاستقلال ، وقد يقول قائل : ( ذلك جزء من الحملة الانتخابية ، تمهيدا للعهدة التالية ) فأقول له : ( ولكن تلك الحملة نجحت وجعلت الشباب الجزائري كله يهتف للرئيس بوتفليقة ، ويثمِّن له تلك المبادرة ، وبالتالي : ما غركم بمحاولة تأليب هؤلاء الشباب ضده ، أم أن الحماقة أعيت من يداويها ؟ ) .
لقد تجاوز الشعب الجزائري مرحلة الثورة إلى مرحلة الحفاظ على مكاسبها ، عبر تقييم وتقويم منجزاتها ، وهذا لن يتأتى إلا بتحري النزاهة والمصداقية في تشخيص مواطن الخلل وأعشاش الفساد ، وليس عبر استيراد نماذج غير مطابقة من الثورات التي لا تناسب مقاسنا ، وعندما أقول تشخيص ( قبل وصف العلاج ) فأنا أقصد ذلك تماما ، لأنه ليس من المنطق إعطاء وصفة لعلاج الصداع إذا كان ما يشكو منه المريض هو التواء في مفصل الكاحل .
لا يخلو بلد مهما بلغ من التمدن والرفاهية والازدهار، من مشاكل تحتاج إلى حل، نعم لنا مشاكلنا، وهي متنوعة بين اقتصادية واجتماعية وسياسية ... الخ ، لكنها لا تحتاج إلى ثورة ، مشاكلنا تحتاج إلى :
1 - نضال نقابي مخلص ، يركز على المصلحة العامة وليس على تحقيق المكاسب الشخصية عبر المتاجرة بالهموم القاعدية ومقايضتها بالكرسي والامتيازات المختلفة .
2 – مسِؤول مخلص يدرك أنه مُستأمن على مصالح مواطنين لهم حقوقهم الثابتة التي لا يحق له الاعتداء عليها .
3 – حوار سياسي راق وبنّاء ، يهدف إلى الإصلاح وتعزيز المكاسب السياسية وليس إلى امتطاء الموجة للوصول إلى أحد الكراسي .
4 – تقديم المصلحة العليا للوطن ، بحيث لا نعطي الفرصة لأعدائه حتى يستغل اختلافنا في الرأي لدس أنفه المزكوم وتلويث الأجواء بيننا بمختلف الأنفلونزات السياسية .
5 – إنتاج الفرد الصالح أو المواطن الصالح ، المتشبع بقيم النزاهة والأمانة ، وبالضمير الحي والوعي الوطني ، حتى نضمن أجيالا من الشرفاء القادرين على ابتكار سبل الإزدهار لهذا الوطن ، أما أن نخفق في تربية أولادنا ثم نتبجح بشعارات مستوردة فهو إما دليل خيانة وعمالة وإما دليل حُمق ٍ وسَفهٍ.
.
.
.
ما نحتاجه إذن ليس ثورة على النظام بل هو ثورة على تقصيرنا وكسلنا واتكالنا وبيروقراطيتنا ، ثورة على أخطائنا وقابليتنا للتحريض والتعبئة النفسية الهدَّامة ، وإذا كان هذا ما نحتاجه فليس بالضرورة أن نخرج في مسيرة في هذا التوقيت بالذات ، خاصة بعد إعلان الرئيس عن الخطوة الإيجابية جدا : رفع حالة الطوارئ ، وعن تلك الخطوات الأخرى التي لا تدل على ضعف موقفه في ظل عدوى ثورات الشعوب ، بل تدل على حكمته وبعد نظره لأنه بذلك اختلف عن المخلوعين بن علي ومبارك في أنه مستعد للإصغاء إلى نبض الشارع ، ومستعد لتقديم التنازلات التي يتطلبها حقن الدماء ، ومستعد قبل هذا وذاك لإثبات أن أرض الجزائر التي لاتزال رطِـبة بدماء شهدائها لن تكون هشيما يلتقط الشرارات الطائشة .
تحية كبيرة لشباب الجزائر ، الذي أثبت نضجا سياسيا متفردا ، فقد بارك ثورة تونس ضد دكتاتورها ، وثورة مصر ضد فرعونها العميل لإسرائيل ، دون أن يغفل عن عدم مطابقة هذين النموذجين للحالة الجزائرية ، تحية عريضة لحكمة الشباب .
نشر في الموقع بتاريخ : الأحد 10 ربيع الأول 1432هـ الموافق لـ : 2011-02-13
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق