الجمعة، 5 أبريل 2013


                                              امرأة في الذاكرة .

ها هو الثامن مارس يعود ، ويعيد عليَّ ذكراها الموجعة ، تلك المرأة التي تقاطع قدري مع قدرها ذات ربيع فحفر خندقا من الوجع في قلبي ، لن أنسى بريق عينيها الذكيتين ، والكحل الحالك الذي كان يطوقهما فيزداد حورهما ألقا ، لن أنسى رائحة عطرها ولا نقش حنائها ....إنها ( خالتي علجيه ) .
حين عرفتْ أنني الزوجة الوحيدة لزوجي عاتبتني قائلة :
-          لمَ لا تتركين الرجل يكمل دينه ؟ 
 وعندما سألتها عن قصدها أضافت :
-          الرجل لا يكتمل دينه إلا إذا تزوج أربع نساء .
سألتها عن الآية أو الحديث النبوي الذي يلزم الرجل بأربع ٍ فقالت :
-          ابن عمي قال ذلك ، عندما تزوجني كنت أنا الثالثة ، وكنا ثلاثتنا بنات عم ، ورغم ضيق المنزل قبلنا أن يتزوج ابنة عمنا الرابعة ، خاصة أننا لم ننجب له سوى البنات !!
سألتها عما إذا كانت الرابعة قد أنجبت له الذكر فأجابت :
-          كلاَّ ، لم تنجب هي الأخرى سوى بنات ، أما أنا فأنجبت ذكرا من زوجي الأول ، لكن مع ابن عمي لم يشأ الله.
كانت الدهشات تتوالى عليَّ بينما ينهمر سيل أسئلتي الفضولية  ، سألتها عما كانت عليه  حالته المادية ، فصعقني جوابها :
-          ابن عمي رحمه الله ، لم يكن يعمل ، لكننا الأربعة كنا نتقن صناعة النسيج والفخار ، وكنا قنوعات وليس مثل بنات جيلكن ، حتى المنزل الذي كنا نسكن فيه لم يكن سوى غرفتان ومطبخ !!
سألتها  في ذهول ( ألم يكن لكل واحدة منكن منزلا مستقلا ؟ ) قبل أن تجيبني ضاحكة :
-          وماذا تتصورين ؟ قلت لك أننا كنا قنوعات ، كانت لنا نحن النساء غرفتنا ، وكانت لابن عمي غرفته الخاصة ، وكانت كل واحدة منا تعرف دورها فتتسلل إلى غرفته خفية عن الأخريات ، ثم تعود بعد ذلك لتندسّ بين بنات عمها !!
كاد يغمى عليّ وأنا أتخيل ذلك الوضع ، وداهمني الغثيان – عافاكم الله – ولم أدر ِ كيف صرختُ في وجهها : ( غبيات ، جاهلات ، كيف قبلتن بذلك الوضع المهين ) ووقع جوابها كالطامة على رأسي :
-          وهل كان علينا أن نترك ابن عمنا يموت ناقص دين ؟ ألا تعلمين أن الرجل الذي لا يتزوج أربعة يعتبر عاصيا لله ، وحرام عليه دخول الجنة ؟
لم أتمالك نفسي  ، فارتميت على أقرب كرسي وأنا أردد : ( ترى كم عددهن ؟ اللواتي خدعهن الرجال بهذه الأكذوبة ؟ وكيف يفتري رجل على الله من أجل غاية حقيرة كهذه ؟ ) ولكنني عدت أقول في نفسي ( ربما لم يقصد الرجل الافتراء ، قد يكون فهم الآية الكريمة بهذا الشكل ، فاعتقد أنه بالجمع بين أربع نساء يكون قد تقرَّب من الله ، وللناس فيما يعتقدون عجائب وغرائب ، ألا يتقرب بعضهم في هذا الزمن إلى الله بذبح البشر ؟)
انتبهت ُ إلى المرأة المسكينة التي تفجَّرت على شفتيها عشرات الأسئلة ، فرحت أهدئ  من روعها دون أن أفلح ، لقد اكتشفتْ أنها قد خُدعت بشكل لا يمكن استدراكه أو تصحيحه ، وراحت تحدثني بأشيائها  الحميمة وهي تبكي بحرارة ، قالت :
- أثق كثيرا في كلامك يا بنيتي ، فأنت ِ مثقفة وحنونة ، كما أن كلامك يشفي جراح قلبي ، وينسجم تماما مع ما آمنت به دائما من أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون راضيا على ما كان يحدث لنا ، لم أتقبَّل أبدا فكرة أن الله هو الذي فرض على ابن عمي أن يكدِّسنا نحن الأربعة في فراش واحد ، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي فرض على الواحدة منا أن تتسلل ليلا من بين ضرائرها ، لتلتحق بذلك المسترخي على فراشه ، وبعدما يقضي منها حاجته ، تعود إلى فراشها ، تندس بين رفيقاتها المتناومات ، حيث تلفحها أنفاسهن على استحياء ، صدقيني يا ابنتي ، لم أثق أبدا في صحة ما كنا نعيشه ، لكنني لم أجرؤ على استنكار ما كان يردده ابن عمي من أنه فرض وواجب و.. و..
صمتت المرأة ، وافترقنا على وعد أن تحضر لي بعد أسبوع أحد الأواني الفخارية التي تتفنن في صناعتها ، لكنها لم تعد ، بل هاتفتني قائلة :
- أنت ِ لم تكذبي عليَّ ...لقد سألت الإمام وأكَّد لي أن الزواج بأربع مباح لكنه ليس فرضا ..
وعندما قلت لها أن هذا أمر قد مضى ولا سبيل إلى تغييره ، وأنه من الأفضل أن تنسى وتفكر في المستقبل قالت :
-  لقد مضى ، لكنه قضى على ( صُغري ) الغالي ، لقد قضيت شبابي وأنا أصارع هواجسي وأكبح جماح نفسي من أجل ألاَّ أبدو عاصية لله ، لقد حمَّلت نفسي أعباء كنت بدونها سأشعر بالسعادة والرضى ...أنا ....خسرت حياتي .
انتهت المكالمة وأدركت أن المرأة تعاني أزمة نفسية  فقررت أن عليَّ زيارتها في بيتها ، بدأت أسأل عن العجوز الأنيقة ، المهندمة ، الجميلة التي تدق أبواب عمارتنا من حين لآخر لتعرض علينا بضاعتها اليدوية ،  حتى حصلت على عنوانها ، وقبل وصولي إلى بيتها علمت أنها قد انتقلت إلى جوار الرحمـن الرحيم ، القوي القادر ، المنتقم الجبار ، هاجمني إحساس طاغ ٍ بالذنب ، قد تكون مشاعر الحسرة الشديدة  والقهر العميق هي التي كتمت أنفاسها ، وتساءلت : ( هل كان عليَّ إطلاعها على حقيقة تلك الكذبة ؟ هل من الحكمة أن نترك الناس على عماهم وجهلهم أم أن علينا أن نضيء أمامهم الطريق حتى لو ذهب ذلك الضوء بأبصارهم ؟)
لن أنسى خالتي علجية ، لم أستطع ذلك في الحقيقة ، ومازالت ذكراها تلح عليَّ بالخصوص كلما عاد الثامن مارس ، هذا اليوم الذي تحتفل فيه المرأة بعيدها العالمي ، وفي كل مرة أروح أتخيل وجوه الكثير من النساء اللواتي جئن إلى هذا العالم ، عبرن على هامش الحياة وانسحقن بأثقال من الظلم والاضطهاد والذل ، وغادرن هذه الدنيا دون أن يشعرن ولو للحظة واحدة أنهن مصانات الكرامة ، ترى كم عددهن ؟ وما تفاصيل مآسيهن ؟ أعرف أن كل شخص سيقرأ قصة خالتي علجية سيتذكر إحداهن أو بعضهن ، فلنكتب عنهن ولو من باب أضعف الإيمان .

ملاحظة : هذه القصة واقعية مئة بالمائة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق