امرأة في الذاكرة .
ها هو الثامن مارس يعود
، ويعيد عليَّ ذكراها الموجعة ، تلك المرأة التي تقاطع قدري مع قدرها ذات ربيع
فحفر خندقا من الوجع في قلبي ، لن أنسى بريق عينيها الذكيتين ، والكحل الحالك الذي
كان يطوقهما فيزداد حورهما ألقا ، لن أنسى رائحة عطرها ولا نقش حنائها ....إنها (
خالتي علجيه ) .
حين عرفتْ أنني الزوجة
الوحيدة لزوجي عاتبتني قائلة :
-
لمَ لا تتركين الرجل يكمل دينه ؟
وعندما سألتها عن قصدها أضافت :
-
الرجل لا يكتمل دينه إلا إذا تزوج أربع نساء .
سألتها عن الآية أو الحديث النبوي الذي يلزم الرجل بأربع ٍ فقالت :
-
ابن عمي قال ذلك ، عندما تزوجني كنت أنا الثالثة
، وكنا ثلاثتنا بنات عم ، ورغم ضيق المنزل قبلنا أن يتزوج ابنة عمنا الرابعة ،
خاصة أننا لم ننجب له سوى البنات !!
سألتها عما إذا كانت الرابعة قد أنجبت له الذكر فأجابت :
-
كلاَّ ، لم تنجب هي الأخرى سوى بنات ، أما أنا
فأنجبت ذكرا من زوجي الأول ، لكن مع ابن عمي لم يشأ الله.
كانت الدهشات تتوالى عليَّ بينما ينهمر سيل أسئلتي الفضولية ، سألتها عما كانت عليه حالته المادية ، فصعقني جوابها :
-
ابن عمي رحمه الله ، لم يكن يعمل ، لكننا الأربعة
كنا نتقن صناعة النسيج والفخار ، وكنا قنوعات وليس مثل بنات جيلكن ، حتى المنزل
الذي كنا نسكن فيه لم يكن سوى غرفتان ومطبخ !!
سألتها في ذهول ( ألم يكن لكل
واحدة منكن منزلا مستقلا ؟ ) قبل أن تجيبني ضاحكة :
-
وماذا تتصورين ؟ قلت لك أننا كنا قنوعات ، كانت
لنا نحن النساء غرفتنا ، وكانت لابن عمي غرفته الخاصة ، وكانت كل واحدة منا تعرف
دورها فتتسلل إلى غرفته خفية عن الأخريات ، ثم تعود بعد ذلك لتندسّ بين بنات
عمها !!
كاد يغمى عليّ وأنا أتخيل ذلك الوضع ، وداهمني الغثيان – عافاكم الله – ولم
أدر ِ كيف صرختُ في وجهها : ( غبيات ، جاهلات ، كيف قبلتن بذلك الوضع المهين )
ووقع جوابها كالطامة على رأسي :
-
وهل كان علينا أن نترك ابن عمنا يموت ناقص دين ؟
ألا تعلمين أن الرجل الذي لا يتزوج أربعة يعتبر عاصيا لله ، وحرام عليه دخول الجنة
؟
لم أتمالك نفسي ، فارتميت على أقرب
كرسي وأنا أردد : ( ترى كم عددهن ؟ اللواتي خدعهن الرجال بهذه الأكذوبة ؟ وكيف
يفتري رجل على الله من أجل غاية حقيرة كهذه ؟ ) ولكنني عدت أقول في نفسي ( ربما لم
يقصد الرجل الافتراء ، قد يكون فهم الآية الكريمة بهذا الشكل ، فاعتقد أنه بالجمع
بين أربع نساء يكون قد تقرَّب من الله ، وللناس فيما يعتقدون عجائب وغرائب ، ألا
يتقرب بعضهم في هذا الزمن إلى الله بذبح البشر ؟)
انتبهت ُ إلى المرأة المسكينة التي تفجَّرت على شفتيها عشرات الأسئلة ،
فرحت أهدئ من روعها دون أن أفلح ، لقد
اكتشفتْ أنها قد خُدعت بشكل لا يمكن استدراكه أو تصحيحه ، وراحت تحدثني
بأشيائها الحميمة وهي تبكي بحرارة ، قالت
:
- أثق كثيرا في كلامك يا بنيتي ، فأنت ِ مثقفة وحنونة ، كما أن كلامك يشفي
جراح قلبي ، وينسجم تماما مع ما آمنت به دائما من أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن
أن يكون راضيا على ما كان يحدث لنا ، لم أتقبَّل أبدا فكرة أن الله هو الذي فرض
على ابن عمي أن يكدِّسنا نحن الأربعة في فراش واحد ، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي
فرض على الواحدة منا أن تتسلل ليلا من بين ضرائرها ، لتلتحق بذلك المسترخي على
فراشه ، وبعدما يقضي منها حاجته ، تعود إلى فراشها ، تندس بين رفيقاتها المتناومات
، حيث تلفحها أنفاسهن على استحياء ، صدقيني يا ابنتي ، لم أثق أبدا في صحة ما كنا
نعيشه ، لكنني لم أجرؤ على استنكار ما كان يردده ابن عمي من أنه فرض وواجب و.. و..
صمتت المرأة ، وافترقنا على وعد أن تحضر لي بعد أسبوع أحد الأواني الفخارية
التي تتفنن في صناعتها ، لكنها لم تعد ، بل هاتفتني قائلة :
- أنت ِ لم تكذبي عليَّ ...لقد سألت الإمام وأكَّد لي أن الزواج بأربع مباح
لكنه ليس فرضا ..
وعندما قلت لها أن هذا أمر قد مضى ولا سبيل إلى تغييره ، وأنه من الأفضل أن
تنسى وتفكر في المستقبل قالت :
- لقد مضى ، لكنه قضى على ( صُغري
) الغالي ، لقد قضيت شبابي وأنا أصارع هواجسي وأكبح جماح نفسي من أجل ألاَّ أبدو
عاصية لله ، لقد حمَّلت نفسي أعباء كنت بدونها سأشعر بالسعادة والرضى ...أنا
....خسرت حياتي .
انتهت المكالمة وأدركت أن المرأة تعاني أزمة نفسية فقررت أن عليَّ زيارتها في بيتها ، بدأت أسأل
عن العجوز الأنيقة ، المهندمة ، الجميلة التي تدق أبواب عمارتنا من حين لآخر لتعرض
علينا بضاعتها اليدوية ، حتى حصلت على
عنوانها ، وقبل وصولي إلى بيتها علمت أنها قد انتقلت إلى جوار الرحمـن الرحيم ،
القوي القادر ، المنتقم الجبار ، هاجمني إحساس طاغ ٍ بالذنب ، قد تكون مشاعر
الحسرة الشديدة والقهر العميق هي التي
كتمت أنفاسها ، وتساءلت : ( هل كان عليَّ إطلاعها على حقيقة تلك الكذبة ؟ هل من
الحكمة أن نترك الناس على عماهم وجهلهم أم أن علينا أن نضيء أمامهم الطريق حتى لو
ذهب ذلك الضوء بأبصارهم ؟)
لن أنسى خالتي علجية ، لم أستطع ذلك في الحقيقة ، ومازالت ذكراها تلح عليَّ
بالخصوص كلما عاد الثامن مارس ، هذا اليوم الذي تحتفل فيه المرأة بعيدها العالمي ،
وفي كل مرة أروح أتخيل وجوه الكثير من النساء اللواتي جئن إلى هذا العالم ، عبرن
على هامش الحياة وانسحقن بأثقال من الظلم والاضطهاد والذل ، وغادرن هذه الدنيا دون
أن يشعرن ولو للحظة واحدة أنهن مصانات الكرامة ، ترى كم عددهن ؟ وما تفاصيل مآسيهن
؟ أعرف أن كل شخص سيقرأ قصة خالتي علجية سيتذكر إحداهن أو بعضهن ، فلنكتب عنهن ولو
من باب أضعف الإيمان .
ملاحظة : هذه القصة واقعية مئة بالمائة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق