حفل تحنيط
بقلم : رتيبة بودلال
إطلع على مواضيعي الأخرى
[ شوهد : 427 مرة ]
وقف وسط الردهة يستجمع شجاعته ، سيخرج على قدميه فالأسود لا تجلس على الكراسي المتحركة ، الأسود إما أن تمشي على أقدامها وإما أن تموت .
وقف أمام المرآة وامتدت أصابعه المرتعشة لتعدل هندامه الأشيب ، اليوم أول نوفمبر وهو مدعو لإحياء الذكرى رفقة من أخلفهم الموت بعدما خلََّفهم مجد الإستشهاد ، راح يتذكر بحسرة آخر رفيق سلاح توفي منذ أشهر ، رحمه الله وحشره في زمرة الشهداء ، وقعت عيناه على الكرسي المتحرك الذي جلبه له أحد أولاده فتنهد بعمق وحرقة ، قبل أن تمتد يده إلى العصا التي يستعين بها على المشي :
- اللعنة ...هل كان عليهم أن يعمقوا شعوري بالإعاقة هكذا ؟ كرسي متحرك ؟ أنا ..فوق كرسي متحرك؟
وقف وسط الردهة يستجمع شجاعته ، سيخرج على قدميه فالأسود لا تجلس على الكراسي المتحركة ، الأسود إما أن تمشي على أقدامها وإما أن تموت ، فجأة كاد يفقد توازنه فانفجر ساخطا:
- اللعنة عليكم أيها الشياطين الصغار ، لماذا تقفزون بين رجليَّ هكذا ؟ هل تنوون إسقاطي ؟ هيهات لكم....اللعنة على قلة تربيتكم...
ثم أكمل سيل الشتائم والسباب ، بينما واصل الأطفال جريهم ومرحهم ، وهم يرددون بصوت موحد منتش ٍ : ( غٌذوه مانقراوشْ ...شرالي بابا زاوشْ ...حطِّيتو فالبتـِّـيَّه...خرجلي بوسعديَّه.....
كاد أن يقول لهم أشياء كثيرة لكنه أدرك أن لا أحد يسمعه ، الأطفال يركضون ويغنون ، سعداء بهذه العطلة القصيرة التي أتاحها لهم عيد الثورة ، لكن ليس منهم من يستطيع أن يتخيل ما يعنيه هذا اليوم له ، ولا ماكان يمكن أن يكون لولا تلك الشعلة من نار ونور التي أطلقها أجدادهم عندما آمنوا في لحظة يقين أن الحرية تفتدى بالدماء ولا تستجدى بالكلام ....
- الله يرحمك يا بوخميس يا خويا ....
قالها متمتما ثم زمَّ شفتيه طويلا قبل أن يواصل طريقه نحو باب الخروج ، بينما سمع كنَّاته من خلفه يتهامسن :
- صار أكثر إزعاجا ...لا يكف عن زجر الأطفال والحد من حريتهم ..
- المسكين منذ الوعكة الصحية الأخيرة وهو يتصرف بهذا الخرف ..
- اصمتن وإلا نالت كل واحدة منكن نصيبها من إعادة التربية ....
- لا عليك ..قولي ما تشائين فقد صار سمعه ثقيلا....
واصل طريقه بلا مبالاة ، وهو يحمد الله أنهن يعتقدن أن سمعه ثقيل ، هذا يريحه لأنه يستطيع تجاهل تفاهاتهن اليومية ، دون أن يفقد هيبته ووقاره ، هيبته؟ وأية هيبة مازالت في زمن ( غذوه ما نقراوش )؟ وأية هيبة تبقت له بعدما أصبح في نظر أفراد أسرته مجرد عجوز خرف ، يملك تقاعدا مغريا ؟ مجرد بقرة حلوب ، اللعنة على ذلك اليوم الذي بدأ يقبض فيه تقاعده ، مذ ذاك لم يستطع تمييز من يحبه ممن يحابيه :
- إيييه....الله يرحمك يا خويا بوخميس ...
ظل ينقل خطواته على امتداد الشارع القصير الذي يفصل بيته عن مقر قسمة المجاهدين ، كان يمشي هذه الطريق في دقائق معدودة قبل أن يتسبب ارتفاع الضغط الدموي في شبه شلل نصفي بشقه الأيسر ، قال له الطبيب لاحقا في إحدى زياراته الدورية : ( في مثل وعكتك هذه ، إذا نجا المريض من الموت فإنه لا ينجو من شلل نصفي يقعده بقية حياته ، أنت من طينة ناذرة من البشر الذين تتغلب قوة روحهم على المرض ، تهانيَّ ) تذكر ذلك فامتلأت صدره بمزيج من الغبطة والأسى واختلطت عليه مشاعره حتى كادت الدموع تطفر من زاوية عينه اليمنى ، فاليسرى لم تعد تمطر ، لكن لافتة بيضاء وقفت في أفق نظره مكتوب عليها بخط عربي أنيق ( ثانوية الشهيد السعيد بوخميس المختلطه ) وحينها بردت الدمعة الواقفة في طرف جفنه ، ثم تلاشت وهو يتذكر اليوم الذي استشهد فيه ابن عمه وأخوه من الرضاعة ، بوخميس الجنيور ، كان يدرس بالمرحلة الثانوية عندما استبدل كراريسه بالبندقية ومئزره بالقشابية ، كان يحلم أن يصبح مهندسا لكنه استبدل حلمه ذاك بآخر اسمه ( الحريه ) كانت ابتسامته أصفى من سماء ربيعيه ، وكان...كان...
انتبه على صوت مستقبليه وهم يرحبون به ، ويبدون دهشتهم لمجيئه ، ربما اعتقدوا أنه سيرسل من ينوب عنه ، لكنه فاجأ الجميع وحضر ، حضر ليلتقي بمن تبقى من رفقاء الذكريات ، لقاء قد يتكرر بعد أشهر أو بعد عام وقد لا يتكرر أبدا ، إنهم يتناقصون مرة بعد مرة ، في الماضي كان عددهم بالعشرات وهاهو اليوم يتقلص إلى بضع عشرة مجاهدا ، تبادل معهم طقوس التحية والمواساة ، وإيماءات العزاء المتبادل ، ثم حان وقت تسليم التكريمات ، كل شيء صار مستعجلا في هذا الزمن ، لكن لابأس بذلك ، سيمنحه هذا مزيدا من الوقت بعد الحفل ليتبادل الأحاديث مع أصدقاء الوجع أولئك ، حان دوره ليتسلم التكريم ، كان مصرا على اعتلاء المنصة وإلقاء كلمة ، لكن منظمي الحفل أعفوه من ذلك ، إذ تقدم منه أحدهم والارتباك باد على وجهه قائلا :
- فكرنا أن نبعث لك هذه ..... لكنك حضرت إلينا بنفسك ، سننقلها إلى بيتك لاحقا ....
نظر مليا إلى الهدية ، زمَّ شفتيه مطولا وهو يحرك رأسه يمينا ويسارا ، كرسي متحرك ؟ الجميع يريد تعميق حزنه وإحساسه بالعجز ، من قال لهم أنه بحاجة إلى كرسي متحرك؟
- اللعنة على تكريماتهم المقيته ، هل يريدون تحنيطي ؟
استجمع ما تبقى من قواه ، وغادر القاعة بتثاقل وأسى ، وفي طريق عودته إلى البيت ظلت أصوات الأطفال تردد في بلاهة : غذوه مانقراوش...شرالي بابا زاوش .......
نشر في الموقع بتاريخ : الاثنين 24 ذو القعدة 1431هـ الموافق لـ : 2010-11-01
التعليقات
فاديا عيسى قراجه
المبدعة رتيبة :
لوحة داكنة لمصير من دفعوا بأرواحهم من غير حساب كي يبقى الوطن عزيزاً كريماً ..
هذا كل ما استطاع صناع القرار أن يضمدوا به جراح الجراح
جميلة أنت يل صديقتي ..
جميلة طلباوي
الأستاذة رتيبة بودلال
لك منّي تحية تليق بك
ربّما نحن أبناء المجاهدين يتملكّنا إحساس خاص كلّما حلّ أول نوفمبر ، نسترجع تلك اللّحظات الجميلة التي كنّا نقضيها مع آبائنا المجاهدين و هم يحدثوننا عن تلك الارادة القوية التي كانت لديهم في تحرير الأرض ، لهذا تجديننا نتأمّل أحوال أولئك الذين بقوا على قيد الحياة متألّمين من وضعهم و ظروفهم و من إحساس مرّ عندما لا يجدون اهتماما من الجيل الجديد بتضحياتهم و بالأخص عندما يخالجهم شعور بأنّ هذا الجيل لم يعرف ثمن الحرّية ،هنالك خلل ما..
و كأنّي بك كتبت نصّك هذا من دم و دموع.
نترحم على أرواح الشهداء و المجاهدين الذين غادروا الحياة و كلّ الاحترام لأولئك الذي ما زالوا على قيد الحياة و ما بدّلوا تبديلا.
فائق احترامي و تقديري.
عمر الحرفاني
قصتك متوسطة الإبداع هذه المرة على الرغم أننا عرفناك قاصة جيدة في كثير من النصوص الإبداعية..
شكرا جزيلا لهذه الاستمرارية
الصديقة فاديا
ما أسعدني بمرورك هذا ، فعلا: اللوحة داكنة لكن الموجع أكثر أنها واقعية مئة بالمئة ، تحيتي لروحك الشفافه.
رتيبة بودلال
الأستاذة جميلة طلباوي :
لقد وضعتِ يدك على شفة الجرح : نحن أبناء المجاهدين نكتشف يوما بعد آخر مقدار ما تعنيه الذكرى ، نكبر وتكبر معنا مشاهد ذلك الإنطفاء والخبو في عيون من عرفناهم أسودا ، أخشى أن يجيء زمن لانجد فيه رجلا واحدا من فصيلة ( مجاهد ) على قيد الحياة ، حينها فقط سندرك أي عمر أهدرناه وأية فجيعة عصفت بنا ...يوجد خلل أي نعم : ربما هو شحُّ ثقافة الحوار في يومياتنا ، فأنا متأكدة أن أجيال ما بعد الإستقلال لايقلون حبا لوطنهم عن أي جيل آخر ( ولنا في تداعيات أم درمان مثالا جليا ) لكن الأزمة حقا هي غياب التواصل بين جيل الثورة وخلفه ، وهو شيء قد يكون بفعل فاعل يجتهد في تقزيم الروح الوطنية بطرق غير مباشرة في غياب الوعي الجماعي وفي غفلة من أصحاب النوايا الطيبة : فالطيبة أحيانا تصبح مرادفا للبلاهة.
وافر التقدير ووابل التحايا.
رتيبة بودلال
الأخ عمر الحرفاني : لا تتصور كم أسعدني أن أقرأ تعليقا صادقا من شخص لا أعرفه ، ينبهني إلى انخفاض مستوى الإبداع فيما كتبت ، لأن ذلك يدل على أنني لست وحدي ، ثمة من يرصد نبض حرفي ويراقبه وينبهني عند الضرورة ، أشكرك مرة ثانية وأعترف أنني كتبت ذلك المشهد باستعجال ، وعذري أنني لم أستطع تجاهل المناسبة المفخرة ، التي تثير فينا أحيانا زوابع الأسى عندما نعرف أن رجالا كُثرًا ممن قدموا شبابهم وقودا للثورة ، يعيشون على هامش الحياة ، وسط من لا يدرك رفعة مقاماتهم ومدى علو هاماتهم ، كتبت باستعجال لأن وقتي وطاقتي مُحتلاّن من طرف ضرتين متنافستين : وظيفتي كأستاذة رياضيات من جهة ( أقسام نهائية ) وطبيعتي كأم وزوجة محبة لأسرتها ، أما الكتابة فهي عشيقتي السرية ويبدو أنني التقيتها على عجل هذه المرة ، فمعذرة لذوقك الكريم ، وأعدك بالتخلص من الضرة الأولى عما قريب إن شاء الله ، وإعطاء مساحة أكبر من وقتي وجهدي للكتابة .
شكرا مرة أخرى ، دم صادقا و بألف خير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق