عندما أصبحتُ أمًّا
بقلم : رتيبة بودلال
إطلع على مواضيعي الأخرى
كان الليل قد أسدل على الكون جناحيه عندما أحسست بوخزآلام أيمن خصري ، اعتقدت أن الأمر يتعلق بوجع في الأمعاء غير أن الآلام تحولت في ثوانِ إلى طعن خناجر، واستوجب الأمر نقلي إلى مستشفى الولادة في تمام منتصف الليل...مستشفى الولادة؟؟ هل سأضع طفلي في الشهرالسابع أم الثامن ؟ يا إلهي مواليد الشهر الثامن لا يعيشون إلا بنسبة واحد على الألف ...لطفك يا الله.. استقبلتني القابلة المناوبة بامتعاض واضح ، وصفت للممرضة الحقنة المناسبة لحالتي وانصرفت وهي تتثاءب وتتمتم ، توقف الألم مرة واحدة ، وقالت الممرضة أن عليَّ النوم لأن الوقت متأخر !! عن أي نوم تتحدث وهي ترى النساء المتألمات يتأوهن وهن يتنقلن ببطء ومعاناة كبيرة على امتداد الرواق الطويل وتحت أنواره الساطعة ؟ فجأة سمعت صرخة حادة قريبة مني ،التفت لأرى المرأة التي صرخت قد استأنفت كلامها مع أخرى بينما كانت كل واحدة منهما تضع يدا على أسفل ظهرها والأخرى على الجدار وتحاول المشي ، صرخة أخرى ثم الكثير من الأنين ، صوت امرأة تصرخ بأعلى صوتها ( يااااااربيييييي....إيييي .....) ثم انخرطت في انتحاب بدأ يخفت حتى تلاشى ، داهمني الإحساس بالغربة ، نساء كثيرات ينتظرن لحظة الخلاص ، بعضهن يصرخن برعب والبعض الآخر ترتسم على قسماتهن علامات الخوف والقلق و الألم الدفين ، ووسطهن جميعا أكتم آلامي والصرخة التي كاد يفجرها رعبي مما ينتظرني ...كل هذا على بعد مائتين وخمسين كيلومتر من زوجي ..
في الصباح عاودتني الآلام ، رهيبة ، حادة ، وكان رعبي يتضاعف : ( هل سأضع طفلي في الشهرالسابع أم الثامن ؟) تبأ للقابلات ، لقد حددت لي كل واحدة منهن موعد ولادة مختلف ، جاءت الطبيبة في حوالي الواحدة ظهرا ، فحصتني ثم أمرت بتوصيلي بزجاجة السيروم ، وعندما توقفت الآلام توقفت معها حركات الجنين ، مرت ساعة ..ساعتان..ثلاث ساعات ولا حركة واحدة ، ناديت إحدى القابلات وأخبرتها بالأمر أملا في أن تجري لي فحص التصنت على ضربات قلب الجنين ، لكنها قالت بجفاء ( أنا أعرف عملي جيدا ولست بحاجة إلى تعليماتك ) ، ولما استمر سكون جنيني عاودت طلبي ورجائي لكنها تمادت في الرفض ، ثم بعد ذلك أصبحت تتحاشاني وتختفي في أول منعرج يصادفها عندما تراني ، تساءلت عما إذا كانت تسمية ( ملائكة الرحمة ) صحيحة أم أنها مجرد خرافة ، وفي المساء عندما جاءت فرقة المناوبة الليلية أيضا عاودت طلبي :
- أرجوكِ فقط تصنتي على ضربات قلب جنيني فهو لا يتحرك أرجوكِ..
ومع قليل من الإلحاح استجابت إحداهن ، ثم قالت :
- لا أخفي عليك ِ ...تقريبا لا أسمع شيئا ، ولكن لاعليكِ في الصباح تأتي الطبيبة.....
يا إلهي ...هل....أوه لايمكن...ولكن ...ثم ماذا سأقول لزوجي ؟ بل كيف سيتحمل حدثا كهذا؟ ولكن أي حدث؟ كل ما في الأمر أن ...أوه يا إلهي ألطف بنا...
كانت ليلة طويلة ويدي موصولة بزجاجة السيروم ، يداي مزرقتان في أكثر من موضع بسبب وخز الإبر لأنهم اضطروا أكثر من مرة إلى تغيير مكان الوصلة بسبب انفجار الأوعية الدموية ، حتى جربوا الوخز في قدمي ، كنت أقول في سري ( كل هذه الآلام ومازال ألم الوضع ينتظرني ) وكان الهاتف يرن من حين لآخر ليخاطبني زوجي من على بعد عشرات الكيلومترات :
- أرجوكِ هل أنتِ حقا بخير ؟
- طبعا ...وإلا ماكنت لتسمع صوتي الآن ...
- والجنين..بخير أيضا؟
- أجل وينظر وصولك ليخرج إلى الحياة بحضورك..
-و....
وكنت أنتظر الصباح ، لا أكاد أرفع عينيَّ عن النافذة إلاَّ لأراقب الساعة ...
في حوالي العاشرة صباحا جاءت الطبيبة ، انتظرت أن تمر عليَّ حتى نفذ صبري ، وحين جاءت قالت :
- في الحقيقة هذا الوقت من السنة غير مناسب للوضع ، الأطباء يأخذون عطلتهم السنوية لذلك لستِ محظوظة كونك تضعين حملك في أواخر أوت ، حتى جهاز الفحص الإيكوغرافي معطل ، أنا متعاونة فقط مع المستشفى في غياب الطبيب ولا أستطيع فعل شيء لك فقط أستطيع نصحك ، فإذا كنتِ مستعدة لدفع ثمن الفحص الإيكوغرافي ، بإمكانك فعل ذلك خارج المستشفى على حسابك الخاص ، وسأعين قابلة لمرافقتك ....
كنت سأقول لها أشياء كثيرة عن اختيار الوقت المناسب للحمل والوضع لكن إضاعة الوقت لم تكن في مصلحتي ، فاكتفيت بأن أجبتها :
- طبعا أدفع ثمن الفحص ...جنيني لم يتحرك منذ أمس وأكاد أفقد صوابي ..
عندما ركبت سيارة الإسعاف انتابني إحساس غريب ، فلقد تذكرت حلما رأيته في إحدى الليالي السابقة، رأيتُني أصطاد سمكة كبيرة ..كبيرة جدا لكن عيناها حمراوتان ، كانت سمكة ميتة من قبل أن أصطادها ، إذن هي رؤية ، سمكة ميتة أصطدتها من البحر ..المعنى واضح و....قدَّر الله وما شاء فعل ...وعندما تمددت على طاولة البحث ، راح الطبيب يحدث القابلة التي رافقتني بلغة فرنسية حذرة ، كان يكلمها ثم ينظر إليَّ مبتسما ليمنحني الأمان ، ربما اعتقد أنني لا أفهم حديثه المفرنس المحشو بالمصطلحات الطبية البحتة :
- ضربات القلب سلبي ...الحركات العامة سلبي ...الحجم طبيعي ....عدد الأسابيع إثنان وثلاثون ...ال...
إذن ضربات القلب سلبي ... !!
كان قد انتهى من فحصي المطول وأثناء إعداده لتقريره كان لا يزال يتكلم الفرنسية معها ويبتسم لي ، ولكي أوفر عليه مشقة إخباري بأن جنيني قد مات ، قلت له بلغة فرنسية سليمة:
- تعودت أن أكتفي بما ينعم عليَّ به الله ، وألا أسخط على قضائه ، الحمد لله على كل حال ، لكن بودي لو تجيبني عن سؤال واحد ( هل يمكنني وضع جنيني الميت دون عملية قيصرية ؟)
ترك القلم بسرعة والتمعت عيناه وهو يحدق بي ثم قال لي :
- أحييك على شجاعتك سيدتي ، وأنا متأكد أنك ستصبحين يوما أما لقبيلة من البنات والبنين جزاء صبرك هذا ...اطمئني سيدتي بإمكانك وضع الجنين دون عملية ، لا تسمحي للقابلات بإعطائك حقن أو أدوية من أجل الإسقاط إلا بعد مراجعتي فمن يدري ، لعل الجنين لم يمت بعد ، وكل شيء ممكن مع إرادة الله..
إذن طفلي ميت ، عليَّ أن أمنح لنفسي الشجاعة لأن الذي ينتظرني ليس سهلا ، فسبحان الذي يخرج الميت من الحي ... ثم يجب أن تكون لدي الشجاعة الكافية لإعلان الخبر ، بعد قليل يحين موعد الزيارة وسيكون عليَّ إعلامهم ، يارب كن معي وامنحني شجاعة الكلام دون انتحاب .
حان وقت الزيارة ، دخل الأهل والأقارب والمعارف أما زوجي فلم يكن قد وصل بعد من السفر، لم أستطع أثناء التسليم عليهم أن أجيب عن استفساراتهم بغير ( الحمد لله ).. بعد قليل سحبت أمي إلى رواق المستشفى ، مشينا قليلا ثم استجمعت كل ما لديَّ من قوة وقلت لها :
- أمي لقد أجريت فحصا إيكوغرافيا وقد تبيّن أن حملي ذكرا ..نعم طفلي البكر سيكون ولدا ، لكنه سيظل طفلا إلى الأبد ، لن يعيش أكثر مما عاش ...
كنت أعلم كم هي رقيقة أمي ، وكم ستتأثر بالخبر فأضفت بسرعة :
- ليس هذا هو المهم ، المهم حقا هو كيف سيخرج طفلي الميت من بطني دون أن تخرج معه روحي ، لذلك أحتاج إلى كثير من الشجاعة وعليكم جميعا أن تمنحونيها ، أو على الأقل لا تفقدوني القدر القليل الذي استجمعته ، ومنحته لنفسي إيمانا مني بأن الله قادر على كل شيء .
وقبل انتهاء وقت الزيارة جاءت الطبيبة للتخلص مني ، قالت :
- في الحقيقة طبيب المستشفى في عطلة ، وأنا لن آتي في المساء ولا في الغذ ( العطلة الأسبوعية ) ، ومن الأحسن أن تنتقلي إلى مستشفى المدينة المجاورة حيث يحتمل أن تجرى لك عملية قيصرية ، ولكنهم لن يفعلوا قبل السبت ، لذلك أنصحك بقضاء نهاية الأسبوع في البيت ، ثم الذهاب هناك في بداية الأسبوع و إن عاودتك آلام الوضع قبل السبت عودي إلينا ...
سلمتني رسالة توصية ووجدتُني خارج المستشفى أحمل جنينا ميتا ، وأتجه نحو المجهول ، كانت عيون الأهل تفيض صبرا وحنانا ، وتوسلا إلى الله ، وكنت حزينة لأنني لم أستطع إخبار زوجي أن أبوته ستتأجل ، كنت أنتظر حتى يحضر لزيارتي وكان هو يحاول الحصول على إجازة دون جدوى لأنه كان قد أنهى عطلته السنوية منذ أيام ، كنت مستلقية على الجانب الأيسر حسب تعليمات الطبيبة ، وكنت في شبه غيبوبة تتقاسمني آلام المخاض ومرارة الصبر، كان بإمكاني سماع تمتمات أمي " يا إلهي أنقذ ابنتي الصغيرة ..يا الله فرج كربتها وسهل عليها إنك قادر على كل شيء " وكان بإمكاني عندما أفتح عينيّ من حين لآخر أن أرى وجهها الحنون وتلك العبرات الحبيسات بين جفون أذبلها الهم والعمر والرعب مما ينتظرني أنا صغرى بناتها في أول حمل لي ، وكان بإمكاني إعطاؤها بعض الشجاعة " أنا بخير يا أمي وليس بكثير على خالق السموات و الأرض أن يخلص جنينا صغيرا من بين أحشاء أمه ، ثم الحمد لله على كل شيء ...الأمر له في النهاية وهو قادر على كل شيء ..."
في المساء حضر زوجي ، مثعبا كان وحزينا ، لكنه انحنى عليّ في حنان قائلا : " أكون شاكرا لله وسعيدا إذا نجوتِ...أما الطفل فيعوضنا الله عنه خيرا إذا شاء وليس ذلك بعزيز عليه " قال ذلك وجعلني أكتشف أن حنانه قاتل...
أستطيع الآن أن أتذكر كل شيء ..وتتوهج ذاكرتي أكثر لترتسم الأحداث أمام عينيّ حية نابضة ، كانت صرخة واحدة كفيلة بإرعابي أنا التي سأنجب للمرة الأولى و ..طفلا ميتا !! ترى هل يمكن للجسد أن يخرج من الجسد دون أن يسحب معه الروح؟ وكيف لطفل ميت أن يتحرك ويتخذ الوضع الصحيح في بطني ثم يخرج هكذا دون مشاكل ودون أن يقتلني ؟ إن الله قادر على كل شيء ، قادر على تسهيل الأمر فيتم كل شيء دون عناء ، لكنه قادر أيضا أن يقدر لي أي شيء : القيصرية ..الولادة العسيرة..الموت ولم لا ؟ كانت الآلام تشتد وتشتد ...حجم بطني تراجع وتحول حملي إلى كثلة يابسة علي جانبي الأيمن ..في لحظات الإيمان بقضاء الله وقدره تصورت لو أموت : كيف سيكمل زوجي حياته؟ طبعا لن ينتحر بعدي لأن إيمانه بالله أقوى من أن يزعزعه قضاء الله ، سيحزن كثيرا ، سيُصدم بقوة ، ستجلده ذكريات حبنا الطاهر وقد يتحول لمدة أشهر إلى شبه مجنون ، وفي لحظة ما سيقتنع أن الحياة لابد أن تستمر وأن عليه أن يكملها دوني ، سيتزوج امرأة أخرى قد تسعده وتعزيه في فجيعته ، وقد لا تسعده فتجعله يستسلم إلى الأبد لسياط الذكريات فيقضي بقية حياته يجتر مرارة الصبر..أوه يا إلهي كن رحيما به ولا تخذله أبدا فهو عبدٌ صالح...
كان صراخ النسوة رهيبا ، وكنت قد أصبحت عاجزة عن تسجيل ملاحظاتي حول جهلهن الفظيع ، فلقد كنت أشعر أنني أصبحت لا أسير على الأرض ، كانت أمي وأختي تحاولان حملي على المشي حسب تعليمات الطبيبة من أجل استفزاز عملية الوضع ، وكنتُ أنا شبه غائبة عن الوعي ، أجر قدماي الحافيتين ، وعيناي معلقتان بمصابيح السقف ، بدت لي مثل منافذ للأمل وكان النظر إليها يجعلني أتنفس ، كنت أنظر أحيانا إلى الرواق الطويل ، فيبدو لي مثل نفق معتم ، وتبدو الشرفة في نهايته مثل بقعة ضوء رمادي ، وتترائى لي النساء فيه مثل ظلال أو أطياف تتماوج و تترنح ، كأنها أرواح هائمة ، حتى صار يخيَّل إليَّ أنني قد ولجتُ أحد استوديوهات تصوير أفلام الرعب الأسود ، أضجعتني أمي عند انتهاء وقت الزيارة ، فتشبتتُ بيدها ثم قلت لها :
- أمي ...لقد أفطرتُ بضع أيام من شهر رمضان الفائت بسبب غثيان بداية الحمل ...أخشى أن أموت قبل قضاء صيامي ذاك...
فأجابتني بصوت مرتعب :
- يغفر الله للنفساء إذا ماتت ، وتُكتب عنده شهيدة ، فلا تخ...
ثم انخرطت في الإنتحاب ، بينما قلت لها بثقة واطمئنان :
- لا بأس إذن .... آه ....أمي ....هل أنجبتِني بمثل هذه المشقة والألم ؟
أجابت وقد تحول انتحابها إلى أنين :
- طبعا يا ابنتي ، كل الناس الذين ولدوا في العالم تألمت أمهاتهم في وضعهم ...
فرحت أسألها فيما يشبه العتاب :
- كيف استطعتِ إذن التفريط فيّ وتزويجي ؟
ورحت أواصل أنيني بينما الممرضات يطالبن الجميع بالخروج لأن وقت الزيارة انتهى منذ مدة ...، عدت وحدي ، حاولت النهوض فتمايلت الغرفة أمامي وتهاويت على السرير ، تذكرت أنني لم آكل منذ أيام ، حتى الماء لم أعد أقدر على ابتلاعه ، نظرت إلى الطاولة : قارورة زيت الزيتون التي جلبتها لي أمي ، في لحظة واحدة تصورت أن جرعة واحدة منه ستفيدني كثيرا ..نعم..أنا مقبلة على تجربة صعبة وجديدة عليّ وأحتاج إلى طاقة ، ومادمت عاجزة عن تناول الطعام فعليّ بشرب بعض الزيت ، تناولت جرعة..جرعتان ..ثلاثة ..شعرت بالقوة ..انتابني إحساس غريب ، كما لوكنت أتسلح لخوض معركة رهيبة قد أخرج منها جثة باردة أو أخرج منها مولودة من جديد ، هي معركة حياة أو موت ، معركة أخوضها بمفردي ليس معي سوى إرادتي وإيماني بالله ، لا أحد يستطيع مساعدتي ، لا أبي ولا أمي ولا زوجي ولا إخوتي ولا كل أطباء العالم ، عليّ أن أخوضها لوحدي ومعي الله ، أنا بين يديه ولا خوف عليّ إذن ، ولكن لكي تشملني رحمته عليّ أن أتوسله وأرجوه ، نعم إذا لم أتذكره ولو بالدعاء والرجاء فلماذا ينظر إليّ بعين الرحمة ؟ هو القائل " أدعوني أستجب لكم " والدعاء هو أقل ما نقدمه لنحصل على ما نريد ..يجب أن أدعو الله كل ثانية وكل عشر ثانية ..سأستعطفه وأرجوه وأتوسله ولتكن مشيئته في النهاية ..
كان المساء قد أقبل شاحبا وحزينا ، السماء تلبدت بغيوم شفافة تنذر بأول أمطار الخريف ، جاءت القابلة وقالت لي " زوجك وأخوك في الأسفل ...تعالي وانظري من النافذة ..يجلسان تحت شجرة الزيتون وينتظران خلاصك ..سيزورك زوجك من حين لآخر رغم أن الزيارة ليلا ممنوعة...." سألتها:
- هل سأضع حملي هذه الليلة ؟..أقصد هل يدل الفحص على إمكانية حدوث ذلك الليلة؟
أجابت:
-على كل حال ..حالتك خاصة : الطفل ميت ولم تدخلي الشهر التاسع ..هناك احتمالات عديدة ...وفي أسوأ الظروف ستضطر الطبيبة إلى القيصرية..."
يا إلهي ..قيصرية من أجل طفل ميت ؟ ثم لن أستطيع الحمل بعدها لمدة سنتين؟ سأظل أتعطش إلى أمومتي سنتين أو أكثر ..يا إلهي أنت تعلم الجهر وما يخفى...تعلم أنني أتمنى العيش مع زوجي حياة سعيدة وأن أنجب منه أطفالا يملأون الدنيا صخبا ومرحا ، يارب لاأخفي عليك أنني أريد أن أعيش سعيدة ولو عمرا قصيرا ، يارب امنحنِي قوة التحمل والصبر ..يا رب لك وحدك أرفع دعواتي وتوسلي ، إنني لم أسأل إلا وجهك الكريم ولم أنحنِ إلا لك وحدك فلا تخذلنِ يا الله واشملنيِ برحمتك وعافيتك ..يارب
كان المساء قد تحول ليلا ، والغيوم الشفافة قد تحولت زخات مطر ، تصورت حالة أخي و زوجي تحت شجرة الزيتون ، سيصابان بالزكام ..أوه هاهو زوجي يزورني ، ربما سأراه للمرة الأخيرة..يده في يدي ..حنانه يتسرب إليّ عبر أنامل تفيض أبوة وحبا ، كان يمسك بي في قوة منحتني ألف ألف عمر من الصبر..كان صعبا عليّ أن أفتح عينيّ المثعبتين بعد ليال من السهر المطعّم بآلام المخاض وآلام الصبر ، ومع ذلك فتحتهما لأرى وجهه وأكتشف خطورة حالتي ، نعم ..قسماته التي كانت من قبل تمنحني شهية الحياة هاهي الآن جامدة..لكأنه تمثال حجر أراد ناحته أن يجسد فيه كل ملامح الجلَد والصبر و... نعم لكأنه يقول للقدر : خذ كل شيء واترك لنا جرعة الصبر الأخيرة ..شفتان مزمومتان...عينان متحجرتان ..وجبين متصلب ، أمسكت يده بقوة ثم توسلت إلى الله ( يارب إذا كنت سأموت هذه اليلة فليكن الآن ..يا رب..) وبينما أنا كذلك جاءت الممرضة واعتذرت لأنها مضطرة لإنهاء الزيارة ..حاولت ألا أدع يده ، ظللت ممسكة بشدة ..لكن ..يا إلهي لقد ترك لي كلماته الحارقة وخرج :
- أنت شجاعة جدا ..و أنا أعترف لك بذلك و ستتجاوزين هذه المحنة ، سترين كيف سيتحول كل هذا إلى مجرد ذكرى..أنا أنتظرك في الأسفل فلا تجعلي انتظاري يطول ...
مضى زوجي وعدت وحيدة ..قارورة زيت الزيتون تبدولي مثل دواء سحري ، تناولتها وشربت كل محتواها دفعة واحدة ، وقفت ممسكة بطرف السرير ورحت أعض على أسناني في مقاومة لأوجاعي ...يا إلهي خذ بيدي.. يارب...يا إلهي ...كان الألم قد تحول إلى آلة رهيبة تطبق على حوضي و تكسره ، وكنت لا أزال أتوسل : بإمكانك يارب إتيان المستحيل فلا تبخل عليّ برحمتك..رجوتك ولم أرج سواك ودعوتك ولم أذل وجهي لغيرك فكن معيني يارب ...يارب ...وفجأة أحسست أن عينيّ قد انزلقتا من محجريهما وتدليتا على الخدين ، لم أعد أرى وسمعت رفيقتي بالغرفة تصرخ :( يا ممرضات ..يا قابلات إنها تضع مولودها ..أغيثوها...) عندما فتحت عينيّ رأيت السقف يجري فوقي ففهمت أنهم ينقلونني إلى غرفة الولادة ، ولم أعد أشعر بالألم فأدركت أنني قد وضعت طفلي ، إذن وضعته دون قيصرية ، لقد تخلصت من جنيني الميت والحمد لله ..ولد طفلي ميتا ، باردا وصامتا ومع ذلك الحمد لله ..كم تمنيت لو ضممته إلى صدري ولو ضمة واحدة لأنهمر حنانا وأمومة ، لو لمست أنامله الرقيقة ولو..لمسة واحده....آآه إنه طفلي الأول الذي كنت سأفجر معه كل شوق الأمومة وأحلامها ..ومع ذلك الحمد لله لقد منحني ما طلبته تماما : الولادة الطبيعية ، ولكن ترى كيف هو طفلي؟ سألت القابلة : هل طفلي سليم؟ أقصد هل هو طفل طبيعي ؟ أجابت فيما يشبه العزاء : نعم طفل طبيعي تماما ....ولكنه ....
تمنيت لو أرى وجهه ..لو...لو...
في خلال دقائق أنتهى كل شيء ، وضعوني في سريري وكانت أسناني تصطك والبرد يلبسني رغم حرارة التاسع و العشرين من أوت ، طلبت أغطية ثم نمت كما لو أني لم أنم أبدا ، كنت أشعر أنني أنام في الجنة ، يا إلهي أهكذا هو طعم الراحة ؟ لم أشعر به منذ أشهر ، فتحتُ عينيَّ على صوت زوجي يهنؤني على السلامة ، ثم أغمضتهما لأنام ، وأنا أهمس لنفسي :
حسنا... لقد أصبحت أما لطفل ميت..طفل شاء له الله أن يظل طفلا في ذاكرتي إلى الأبد ..ومع ذلك الحمد لله : أصبحت أما ..
إطلع على مواضيعي الأخرى
[ شوهد : 790 مرة ]
مقدمة : التجارب الإنسانية القاسية ، هي التي تجعل صاحبها يعيد اكتشاف ذاته ، ويختبر متانة إيمانه ، فيدرك قيم الأشياء من حوله .
إهداء : إلى كل من أتيحت له فرصة رؤية ذلك التاج الذي على رؤوس الأصحاء .
كان مساءا حارا ومملا ، وكنت قد أعددت حقيبتي للسفر في الغذ عائدة إلى بيتي بعد قضاء مدة بين أهلي ، كان المساء ثقيلا واللحظات طوالا بطيئات ، وكان عليَّ ابتلاع مرارة الانتظار ، غدا سأعود إلى بيتي ، إلى زوجي ليرى أن حركات جنيني قد أصبحت مرئية بوضوح ، إذ تبدو كأمواج على سطح البطن ، سيسعد بذلك وسيصير بإمكانه الاستمتاع بأبوته من الآن ...أوه كم سيكون رائعا أن نصير أبوين ...إهداء : إلى كل من أتيحت له فرصة رؤية ذلك التاج الذي على رؤوس الأصحاء .
كان الليل قد أسدل على الكون جناحيه عندما أحسست بوخزآلام أيمن خصري ، اعتقدت أن الأمر يتعلق بوجع في الأمعاء غير أن الآلام تحولت في ثوانِ إلى طعن خناجر، واستوجب الأمر نقلي إلى مستشفى الولادة في تمام منتصف الليل...مستشفى الولادة؟؟ هل سأضع طفلي في الشهرالسابع أم الثامن ؟ يا إلهي مواليد الشهر الثامن لا يعيشون إلا بنسبة واحد على الألف ...لطفك يا الله.. استقبلتني القابلة المناوبة بامتعاض واضح ، وصفت للممرضة الحقنة المناسبة لحالتي وانصرفت وهي تتثاءب وتتمتم ، توقف الألم مرة واحدة ، وقالت الممرضة أن عليَّ النوم لأن الوقت متأخر !! عن أي نوم تتحدث وهي ترى النساء المتألمات يتأوهن وهن يتنقلن ببطء ومعاناة كبيرة على امتداد الرواق الطويل وتحت أنواره الساطعة ؟ فجأة سمعت صرخة حادة قريبة مني ،التفت لأرى المرأة التي صرخت قد استأنفت كلامها مع أخرى بينما كانت كل واحدة منهما تضع يدا على أسفل ظهرها والأخرى على الجدار وتحاول المشي ، صرخة أخرى ثم الكثير من الأنين ، صوت امرأة تصرخ بأعلى صوتها ( يااااااربيييييي....إيييي .....) ثم انخرطت في انتحاب بدأ يخفت حتى تلاشى ، داهمني الإحساس بالغربة ، نساء كثيرات ينتظرن لحظة الخلاص ، بعضهن يصرخن برعب والبعض الآخر ترتسم على قسماتهن علامات الخوف والقلق و الألم الدفين ، ووسطهن جميعا أكتم آلامي والصرخة التي كاد يفجرها رعبي مما ينتظرني ...كل هذا على بعد مائتين وخمسين كيلومتر من زوجي ..
في الصباح عاودتني الآلام ، رهيبة ، حادة ، وكان رعبي يتضاعف : ( هل سأضع طفلي في الشهرالسابع أم الثامن ؟) تبأ للقابلات ، لقد حددت لي كل واحدة منهن موعد ولادة مختلف ، جاءت الطبيبة في حوالي الواحدة ظهرا ، فحصتني ثم أمرت بتوصيلي بزجاجة السيروم ، وعندما توقفت الآلام توقفت معها حركات الجنين ، مرت ساعة ..ساعتان..ثلاث ساعات ولا حركة واحدة ، ناديت إحدى القابلات وأخبرتها بالأمر أملا في أن تجري لي فحص التصنت على ضربات قلب الجنين ، لكنها قالت بجفاء ( أنا أعرف عملي جيدا ولست بحاجة إلى تعليماتك ) ، ولما استمر سكون جنيني عاودت طلبي ورجائي لكنها تمادت في الرفض ، ثم بعد ذلك أصبحت تتحاشاني وتختفي في أول منعرج يصادفها عندما تراني ، تساءلت عما إذا كانت تسمية ( ملائكة الرحمة ) صحيحة أم أنها مجرد خرافة ، وفي المساء عندما جاءت فرقة المناوبة الليلية أيضا عاودت طلبي :
- أرجوكِ فقط تصنتي على ضربات قلب جنيني فهو لا يتحرك أرجوكِ..
ومع قليل من الإلحاح استجابت إحداهن ، ثم قالت :
- لا أخفي عليك ِ ...تقريبا لا أسمع شيئا ، ولكن لاعليكِ في الصباح تأتي الطبيبة.....
يا إلهي ...هل....أوه لايمكن...ولكن ...ثم ماذا سأقول لزوجي ؟ بل كيف سيتحمل حدثا كهذا؟ ولكن أي حدث؟ كل ما في الأمر أن ...أوه يا إلهي ألطف بنا...
كانت ليلة طويلة ويدي موصولة بزجاجة السيروم ، يداي مزرقتان في أكثر من موضع بسبب وخز الإبر لأنهم اضطروا أكثر من مرة إلى تغيير مكان الوصلة بسبب انفجار الأوعية الدموية ، حتى جربوا الوخز في قدمي ، كنت أقول في سري ( كل هذه الآلام ومازال ألم الوضع ينتظرني ) وكان الهاتف يرن من حين لآخر ليخاطبني زوجي من على بعد عشرات الكيلومترات :
- أرجوكِ هل أنتِ حقا بخير ؟
- طبعا ...وإلا ماكنت لتسمع صوتي الآن ...
- والجنين..بخير أيضا؟
- أجل وينظر وصولك ليخرج إلى الحياة بحضورك..
-و....
وكنت أنتظر الصباح ، لا أكاد أرفع عينيَّ عن النافذة إلاَّ لأراقب الساعة ...
في حوالي العاشرة صباحا جاءت الطبيبة ، انتظرت أن تمر عليَّ حتى نفذ صبري ، وحين جاءت قالت :
- في الحقيقة هذا الوقت من السنة غير مناسب للوضع ، الأطباء يأخذون عطلتهم السنوية لذلك لستِ محظوظة كونك تضعين حملك في أواخر أوت ، حتى جهاز الفحص الإيكوغرافي معطل ، أنا متعاونة فقط مع المستشفى في غياب الطبيب ولا أستطيع فعل شيء لك فقط أستطيع نصحك ، فإذا كنتِ مستعدة لدفع ثمن الفحص الإيكوغرافي ، بإمكانك فعل ذلك خارج المستشفى على حسابك الخاص ، وسأعين قابلة لمرافقتك ....
كنت سأقول لها أشياء كثيرة عن اختيار الوقت المناسب للحمل والوضع لكن إضاعة الوقت لم تكن في مصلحتي ، فاكتفيت بأن أجبتها :
- طبعا أدفع ثمن الفحص ...جنيني لم يتحرك منذ أمس وأكاد أفقد صوابي ..
عندما ركبت سيارة الإسعاف انتابني إحساس غريب ، فلقد تذكرت حلما رأيته في إحدى الليالي السابقة، رأيتُني أصطاد سمكة كبيرة ..كبيرة جدا لكن عيناها حمراوتان ، كانت سمكة ميتة من قبل أن أصطادها ، إذن هي رؤية ، سمكة ميتة أصطدتها من البحر ..المعنى واضح و....قدَّر الله وما شاء فعل ...وعندما تمددت على طاولة البحث ، راح الطبيب يحدث القابلة التي رافقتني بلغة فرنسية حذرة ، كان يكلمها ثم ينظر إليَّ مبتسما ليمنحني الأمان ، ربما اعتقد أنني لا أفهم حديثه المفرنس المحشو بالمصطلحات الطبية البحتة :
- ضربات القلب سلبي ...الحركات العامة سلبي ...الحجم طبيعي ....عدد الأسابيع إثنان وثلاثون ...ال...
إذن ضربات القلب سلبي ... !!
كان قد انتهى من فحصي المطول وأثناء إعداده لتقريره كان لا يزال يتكلم الفرنسية معها ويبتسم لي ، ولكي أوفر عليه مشقة إخباري بأن جنيني قد مات ، قلت له بلغة فرنسية سليمة:
- تعودت أن أكتفي بما ينعم عليَّ به الله ، وألا أسخط على قضائه ، الحمد لله على كل حال ، لكن بودي لو تجيبني عن سؤال واحد ( هل يمكنني وضع جنيني الميت دون عملية قيصرية ؟)
ترك القلم بسرعة والتمعت عيناه وهو يحدق بي ثم قال لي :
- أحييك على شجاعتك سيدتي ، وأنا متأكد أنك ستصبحين يوما أما لقبيلة من البنات والبنين جزاء صبرك هذا ...اطمئني سيدتي بإمكانك وضع الجنين دون عملية ، لا تسمحي للقابلات بإعطائك حقن أو أدوية من أجل الإسقاط إلا بعد مراجعتي فمن يدري ، لعل الجنين لم يمت بعد ، وكل شيء ممكن مع إرادة الله..
إذن طفلي ميت ، عليَّ أن أمنح لنفسي الشجاعة لأن الذي ينتظرني ليس سهلا ، فسبحان الذي يخرج الميت من الحي ... ثم يجب أن تكون لدي الشجاعة الكافية لإعلان الخبر ، بعد قليل يحين موعد الزيارة وسيكون عليَّ إعلامهم ، يارب كن معي وامنحني شجاعة الكلام دون انتحاب .
حان وقت الزيارة ، دخل الأهل والأقارب والمعارف أما زوجي فلم يكن قد وصل بعد من السفر، لم أستطع أثناء التسليم عليهم أن أجيب عن استفساراتهم بغير ( الحمد لله ).. بعد قليل سحبت أمي إلى رواق المستشفى ، مشينا قليلا ثم استجمعت كل ما لديَّ من قوة وقلت لها :
- أمي لقد أجريت فحصا إيكوغرافيا وقد تبيّن أن حملي ذكرا ..نعم طفلي البكر سيكون ولدا ، لكنه سيظل طفلا إلى الأبد ، لن يعيش أكثر مما عاش ...
كنت أعلم كم هي رقيقة أمي ، وكم ستتأثر بالخبر فأضفت بسرعة :
- ليس هذا هو المهم ، المهم حقا هو كيف سيخرج طفلي الميت من بطني دون أن تخرج معه روحي ، لذلك أحتاج إلى كثير من الشجاعة وعليكم جميعا أن تمنحونيها ، أو على الأقل لا تفقدوني القدر القليل الذي استجمعته ، ومنحته لنفسي إيمانا مني بأن الله قادر على كل شيء .
وقبل انتهاء وقت الزيارة جاءت الطبيبة للتخلص مني ، قالت :
- في الحقيقة طبيب المستشفى في عطلة ، وأنا لن آتي في المساء ولا في الغذ ( العطلة الأسبوعية ) ، ومن الأحسن أن تنتقلي إلى مستشفى المدينة المجاورة حيث يحتمل أن تجرى لك عملية قيصرية ، ولكنهم لن يفعلوا قبل السبت ، لذلك أنصحك بقضاء نهاية الأسبوع في البيت ، ثم الذهاب هناك في بداية الأسبوع و إن عاودتك آلام الوضع قبل السبت عودي إلينا ...
سلمتني رسالة توصية ووجدتُني خارج المستشفى أحمل جنينا ميتا ، وأتجه نحو المجهول ، كانت عيون الأهل تفيض صبرا وحنانا ، وتوسلا إلى الله ، وكنت حزينة لأنني لم أستطع إخبار زوجي أن أبوته ستتأجل ، كنت أنتظر حتى يحضر لزيارتي وكان هو يحاول الحصول على إجازة دون جدوى لأنه كان قد أنهى عطلته السنوية منذ أيام ، كنت مستلقية على الجانب الأيسر حسب تعليمات الطبيبة ، وكنت في شبه غيبوبة تتقاسمني آلام المخاض ومرارة الصبر، كان بإمكاني سماع تمتمات أمي " يا إلهي أنقذ ابنتي الصغيرة ..يا الله فرج كربتها وسهل عليها إنك قادر على كل شيء " وكان بإمكاني عندما أفتح عينيّ من حين لآخر أن أرى وجهها الحنون وتلك العبرات الحبيسات بين جفون أذبلها الهم والعمر والرعب مما ينتظرني أنا صغرى بناتها في أول حمل لي ، وكان بإمكاني إعطاؤها بعض الشجاعة " أنا بخير يا أمي وليس بكثير على خالق السموات و الأرض أن يخلص جنينا صغيرا من بين أحشاء أمه ، ثم الحمد لله على كل شيء ...الأمر له في النهاية وهو قادر على كل شيء ..."
في المساء حضر زوجي ، مثعبا كان وحزينا ، لكنه انحنى عليّ في حنان قائلا : " أكون شاكرا لله وسعيدا إذا نجوتِ...أما الطفل فيعوضنا الله عنه خيرا إذا شاء وليس ذلك بعزيز عليه " قال ذلك وجعلني أكتشف أن حنانه قاتل...
أستطيع الآن أن أتذكر كل شيء ..وتتوهج ذاكرتي أكثر لترتسم الأحداث أمام عينيّ حية نابضة ، كانت صرخة واحدة كفيلة بإرعابي أنا التي سأنجب للمرة الأولى و ..طفلا ميتا !! ترى هل يمكن للجسد أن يخرج من الجسد دون أن يسحب معه الروح؟ وكيف لطفل ميت أن يتحرك ويتخذ الوضع الصحيح في بطني ثم يخرج هكذا دون مشاكل ودون أن يقتلني ؟ إن الله قادر على كل شيء ، قادر على تسهيل الأمر فيتم كل شيء دون عناء ، لكنه قادر أيضا أن يقدر لي أي شيء : القيصرية ..الولادة العسيرة..الموت ولم لا ؟ كانت الآلام تشتد وتشتد ...حجم بطني تراجع وتحول حملي إلى كثلة يابسة علي جانبي الأيمن ..في لحظات الإيمان بقضاء الله وقدره تصورت لو أموت : كيف سيكمل زوجي حياته؟ طبعا لن ينتحر بعدي لأن إيمانه بالله أقوى من أن يزعزعه قضاء الله ، سيحزن كثيرا ، سيُصدم بقوة ، ستجلده ذكريات حبنا الطاهر وقد يتحول لمدة أشهر إلى شبه مجنون ، وفي لحظة ما سيقتنع أن الحياة لابد أن تستمر وأن عليه أن يكملها دوني ، سيتزوج امرأة أخرى قد تسعده وتعزيه في فجيعته ، وقد لا تسعده فتجعله يستسلم إلى الأبد لسياط الذكريات فيقضي بقية حياته يجتر مرارة الصبر..أوه يا إلهي كن رحيما به ولا تخذله أبدا فهو عبدٌ صالح...
كان صراخ النسوة رهيبا ، وكنت قد أصبحت عاجزة عن تسجيل ملاحظاتي حول جهلهن الفظيع ، فلقد كنت أشعر أنني أصبحت لا أسير على الأرض ، كانت أمي وأختي تحاولان حملي على المشي حسب تعليمات الطبيبة من أجل استفزاز عملية الوضع ، وكنتُ أنا شبه غائبة عن الوعي ، أجر قدماي الحافيتين ، وعيناي معلقتان بمصابيح السقف ، بدت لي مثل منافذ للأمل وكان النظر إليها يجعلني أتنفس ، كنت أنظر أحيانا إلى الرواق الطويل ، فيبدو لي مثل نفق معتم ، وتبدو الشرفة في نهايته مثل بقعة ضوء رمادي ، وتترائى لي النساء فيه مثل ظلال أو أطياف تتماوج و تترنح ، كأنها أرواح هائمة ، حتى صار يخيَّل إليَّ أنني قد ولجتُ أحد استوديوهات تصوير أفلام الرعب الأسود ، أضجعتني أمي عند انتهاء وقت الزيارة ، فتشبتتُ بيدها ثم قلت لها :
- أمي ...لقد أفطرتُ بضع أيام من شهر رمضان الفائت بسبب غثيان بداية الحمل ...أخشى أن أموت قبل قضاء صيامي ذاك...
فأجابتني بصوت مرتعب :
- يغفر الله للنفساء إذا ماتت ، وتُكتب عنده شهيدة ، فلا تخ...
ثم انخرطت في الإنتحاب ، بينما قلت لها بثقة واطمئنان :
- لا بأس إذن .... آه ....أمي ....هل أنجبتِني بمثل هذه المشقة والألم ؟
أجابت وقد تحول انتحابها إلى أنين :
- طبعا يا ابنتي ، كل الناس الذين ولدوا في العالم تألمت أمهاتهم في وضعهم ...
فرحت أسألها فيما يشبه العتاب :
- كيف استطعتِ إذن التفريط فيّ وتزويجي ؟
ورحت أواصل أنيني بينما الممرضات يطالبن الجميع بالخروج لأن وقت الزيارة انتهى منذ مدة ...، عدت وحدي ، حاولت النهوض فتمايلت الغرفة أمامي وتهاويت على السرير ، تذكرت أنني لم آكل منذ أيام ، حتى الماء لم أعد أقدر على ابتلاعه ، نظرت إلى الطاولة : قارورة زيت الزيتون التي جلبتها لي أمي ، في لحظة واحدة تصورت أن جرعة واحدة منه ستفيدني كثيرا ..نعم..أنا مقبلة على تجربة صعبة وجديدة عليّ وأحتاج إلى طاقة ، ومادمت عاجزة عن تناول الطعام فعليّ بشرب بعض الزيت ، تناولت جرعة..جرعتان ..ثلاثة ..شعرت بالقوة ..انتابني إحساس غريب ، كما لوكنت أتسلح لخوض معركة رهيبة قد أخرج منها جثة باردة أو أخرج منها مولودة من جديد ، هي معركة حياة أو موت ، معركة أخوضها بمفردي ليس معي سوى إرادتي وإيماني بالله ، لا أحد يستطيع مساعدتي ، لا أبي ولا أمي ولا زوجي ولا إخوتي ولا كل أطباء العالم ، عليّ أن أخوضها لوحدي ومعي الله ، أنا بين يديه ولا خوف عليّ إذن ، ولكن لكي تشملني رحمته عليّ أن أتوسله وأرجوه ، نعم إذا لم أتذكره ولو بالدعاء والرجاء فلماذا ينظر إليّ بعين الرحمة ؟ هو القائل " أدعوني أستجب لكم " والدعاء هو أقل ما نقدمه لنحصل على ما نريد ..يجب أن أدعو الله كل ثانية وكل عشر ثانية ..سأستعطفه وأرجوه وأتوسله ولتكن مشيئته في النهاية ..
كان المساء قد أقبل شاحبا وحزينا ، السماء تلبدت بغيوم شفافة تنذر بأول أمطار الخريف ، جاءت القابلة وقالت لي " زوجك وأخوك في الأسفل ...تعالي وانظري من النافذة ..يجلسان تحت شجرة الزيتون وينتظران خلاصك ..سيزورك زوجك من حين لآخر رغم أن الزيارة ليلا ممنوعة...." سألتها:
- هل سأضع حملي هذه الليلة ؟..أقصد هل يدل الفحص على إمكانية حدوث ذلك الليلة؟
أجابت:
-على كل حال ..حالتك خاصة : الطفل ميت ولم تدخلي الشهر التاسع ..هناك احتمالات عديدة ...وفي أسوأ الظروف ستضطر الطبيبة إلى القيصرية..."
يا إلهي ..قيصرية من أجل طفل ميت ؟ ثم لن أستطيع الحمل بعدها لمدة سنتين؟ سأظل أتعطش إلى أمومتي سنتين أو أكثر ..يا إلهي أنت تعلم الجهر وما يخفى...تعلم أنني أتمنى العيش مع زوجي حياة سعيدة وأن أنجب منه أطفالا يملأون الدنيا صخبا ومرحا ، يارب لاأخفي عليك أنني أريد أن أعيش سعيدة ولو عمرا قصيرا ، يارب امنحنِي قوة التحمل والصبر ..يا رب لك وحدك أرفع دعواتي وتوسلي ، إنني لم أسأل إلا وجهك الكريم ولم أنحنِ إلا لك وحدك فلا تخذلنِ يا الله واشملنيِ برحمتك وعافيتك ..يارب
كان المساء قد تحول ليلا ، والغيوم الشفافة قد تحولت زخات مطر ، تصورت حالة أخي و زوجي تحت شجرة الزيتون ، سيصابان بالزكام ..أوه هاهو زوجي يزورني ، ربما سأراه للمرة الأخيرة..يده في يدي ..حنانه يتسرب إليّ عبر أنامل تفيض أبوة وحبا ، كان يمسك بي في قوة منحتني ألف ألف عمر من الصبر..كان صعبا عليّ أن أفتح عينيّ المثعبتين بعد ليال من السهر المطعّم بآلام المخاض وآلام الصبر ، ومع ذلك فتحتهما لأرى وجهه وأكتشف خطورة حالتي ، نعم ..قسماته التي كانت من قبل تمنحني شهية الحياة هاهي الآن جامدة..لكأنه تمثال حجر أراد ناحته أن يجسد فيه كل ملامح الجلَد والصبر و... نعم لكأنه يقول للقدر : خذ كل شيء واترك لنا جرعة الصبر الأخيرة ..شفتان مزمومتان...عينان متحجرتان ..وجبين متصلب ، أمسكت يده بقوة ثم توسلت إلى الله ( يارب إذا كنت سأموت هذه اليلة فليكن الآن ..يا رب..) وبينما أنا كذلك جاءت الممرضة واعتذرت لأنها مضطرة لإنهاء الزيارة ..حاولت ألا أدع يده ، ظللت ممسكة بشدة ..لكن ..يا إلهي لقد ترك لي كلماته الحارقة وخرج :
- أنت شجاعة جدا ..و أنا أعترف لك بذلك و ستتجاوزين هذه المحنة ، سترين كيف سيتحول كل هذا إلى مجرد ذكرى..أنا أنتظرك في الأسفل فلا تجعلي انتظاري يطول ...
مضى زوجي وعدت وحيدة ..قارورة زيت الزيتون تبدولي مثل دواء سحري ، تناولتها وشربت كل محتواها دفعة واحدة ، وقفت ممسكة بطرف السرير ورحت أعض على أسناني في مقاومة لأوجاعي ...يا إلهي خذ بيدي.. يارب...يا إلهي ...كان الألم قد تحول إلى آلة رهيبة تطبق على حوضي و تكسره ، وكنت لا أزال أتوسل : بإمكانك يارب إتيان المستحيل فلا تبخل عليّ برحمتك..رجوتك ولم أرج سواك ودعوتك ولم أذل وجهي لغيرك فكن معيني يارب ...يارب ...وفجأة أحسست أن عينيّ قد انزلقتا من محجريهما وتدليتا على الخدين ، لم أعد أرى وسمعت رفيقتي بالغرفة تصرخ :( يا ممرضات ..يا قابلات إنها تضع مولودها ..أغيثوها...) عندما فتحت عينيّ رأيت السقف يجري فوقي ففهمت أنهم ينقلونني إلى غرفة الولادة ، ولم أعد أشعر بالألم فأدركت أنني قد وضعت طفلي ، إذن وضعته دون قيصرية ، لقد تخلصت من جنيني الميت والحمد لله ..ولد طفلي ميتا ، باردا وصامتا ومع ذلك الحمد لله ..كم تمنيت لو ضممته إلى صدري ولو ضمة واحدة لأنهمر حنانا وأمومة ، لو لمست أنامله الرقيقة ولو..لمسة واحده....آآه إنه طفلي الأول الذي كنت سأفجر معه كل شوق الأمومة وأحلامها ..ومع ذلك الحمد لله لقد منحني ما طلبته تماما : الولادة الطبيعية ، ولكن ترى كيف هو طفلي؟ سألت القابلة : هل طفلي سليم؟ أقصد هل هو طفل طبيعي ؟ أجابت فيما يشبه العزاء : نعم طفل طبيعي تماما ....ولكنه ....
تمنيت لو أرى وجهه ..لو...لو...
في خلال دقائق أنتهى كل شيء ، وضعوني في سريري وكانت أسناني تصطك والبرد يلبسني رغم حرارة التاسع و العشرين من أوت ، طلبت أغطية ثم نمت كما لو أني لم أنم أبدا ، كنت أشعر أنني أنام في الجنة ، يا إلهي أهكذا هو طعم الراحة ؟ لم أشعر به منذ أشهر ، فتحتُ عينيَّ على صوت زوجي يهنؤني على السلامة ، ثم أغمضتهما لأنام ، وأنا أهمس لنفسي :
حسنا... لقد أصبحت أما لطفل ميت..طفل شاء له الله أن يظل طفلا في ذاكرتي إلى الأبد ..ومع ذلك الحمد لله : أصبحت أما ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق